المغرب الإسلامي في مواجهة الطاعون: الطاعون الأعظم والطواعين التي تلته القرنين 8-9هـ / 14-15م -أحمد السعداوي.

0
هذا المقال حول ثلثاه إلى صيغة نصية تدوينية من المقال الأصلي ويمكن تحميله هنا كاملا بترقيم صفحاته وإحالاته وتهميشاته
كتبه: أحمد السعداوي

   كثيرة هي الأوبئة التي كانت تجتاح المغرب الإسلامي خلال العصور الوسطى. وكانت هذه الأويلة تخلف آثارا حادة في البنية الديموغرافية والاقتصادية للمجتمع الذي كان يواجهها بكثير من الاستسلام والعجز ويرى فيها مصائب تتنزل بها الأقدار . وهذه الأوبئة غامضة في أذهان عامة الناس وحتى في أذهان الأطباء والفلاسفة. هذا الغموض في فهم الأوبئة وأسبابها وكيفية انتشارها نتج عنه عجز عن مواجهتها أو الاحتماء منها.
   وكان الطاعون أخطر وباء أثر في تاريخ المغرب الوسيط الاقتصادي والاجتماعي وذلك خاصة في القرنين 8 و9هـ/ 14 و15م أو بصفة أدق بداية من الطاعون الأعظم الذي اكتسح المنطقة في منتصف القرن 8هـ /14م.
   وكان الطاعون يفاجئ المجتمع المغربي من حين لآخر، ويولد انتشاره فزعا ورعبا خاصا، حتى أن المصادر المعاصرة كثيرا ما تهمل الحديث عن الأوبئة الأخرى (الحمى بأنواعها، الجذام، الجدري، الزهري...) ولا تتحدث إلا عن الطاعون. ويرجع ذلك إلى كون هذا الوباء شديد الفتك قتال يعم بسهولة مناطق محددة ويحدث في الجهات التي ينتشر فيها نزيفا دموغرافيا واقتصاديا تظل تعاني منه زمنا طويلا, لكل ذلك يرسخ الطاعون في الذاكرة الجماعية وهذا الرسوخ تحمد صداه في الكتابات المعاصرة.

I- الطاعون الأعظم وسلسلة الطواعين التي تلته:

أ) الطاعون الأعظم (منتصف القرن 8هـ/14م):

   إن المؤلفات التاريخية التي تحدثت عن القرن 8 هـ/14م عادة ما تذكر الطاعون الأعظم وربما أسمته الطاعون الأكبر أو الطاعون الخارف أو الطاعون العام، ولكن المصادر التاريخية المتنوعة لا تتوفر فيها معطيات كثيرة عن هذا الوباء، بل هي تذكره في سياق حديثها عن سائر الأحداث السياسية والاجتماعية. وإلى جانب المصادر التاريخية المتنوعة نجد جملة من المؤلفات كتبت حول الطاعون. هذه المؤلفات التي تؤكد الأهمية التي أصبح يحتلها الطاعون في حياة الناس تقدم معلومات ضافية ودقيقة عن هذا الوباء.
   فقد كتب الأندلسي أحمد بن علي بن خاتمة عام 1349م رسالة حول الطاعون الأعظم أسماها: "تحصيل الغرض القاصد في تفصيل المرض الوافد". كذلك كتب الأندلسي محمد بن عبد الله بن الخطيب رسالة أخرى حول هذا الوباء أسماهما: "مقنعة السائل عن المرض الهائل" وامتاز هذان المؤلفان بالدقة و"العلمية" في وصف المرض وتقديم العلاج والاحتياطات الضرورية لتجنب العدوى، ومن ناحية ثانية كتب المصري أحمد بن حجر العسقلاني "بذل الماعون في فوائد الطاعون" وكتب المصري شهاب الدين أحمد بن يحي بن أبي حجلة كتاب "دفع النقمة في الصلاة على نبي الرحمة" وهذان المؤلفان الشرقيان ركزا على الجانب الفقهي إذ سجلا ما ورد من نصوص دينية كلاسكية عن الطاعون، أما الجانب الطبي والتاريخي فهو ثانوي فيهما اعتمادا على جملة مصادرنا وخاصة تلك التي سبق ذكرها سنحاول البحث عن مصدر الطاعون الأعظم وتتبع طرق انتشاره كما سنحاول البحث عن الوسائل التي اتبعت للتصدي له والنتائج التي خلفها في البنية الديموغرافية والاقتصادية للمجتمع.
   إن مصدر الطاعون الأعظم نجده في سباسب (Steppes) آسيا الوسطى التي كانت مخزنا للأوبئة ومنها انتشر نحو الهند والصين، من جهة، ونحو الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط، من جهة ثانية. وكان الأندلسي این خائمة أول من أشار إلى ذلك، فقد ذكر أن أحد التجار المسيحيين القادمين من سمرقند أخبره أن الطاعون قد ظهر بتلك المناطق ومنها انتقل إلى الصين وفارس والعراق والأراضي التركية. ويؤكد هذا الخبر ابن الخطيب إذ يقول: "إن قيل ما عندكم في أصل هذا الوباء ومذ كم ظهر في الأرض، قلنا هذا الواقع ابتدأ بأرض الخطا والصين في حدود عام أربعة وثلاثين وسيع مائة، حدث بذلك غير واحد من أولى الرحلة البعيدة والجولان الشيخ القاضي الحاج أبي عبد الله بن بطوطة وغيره..."
   انتشر الطاعون ببلاد المغرب بواسطة السفن القادمة من الشام أو مصر أو أيطاليا وذلك عام 748هـ/1347م، أو بداية السنة الموالية، وقد اكتسح الوباء مدينة تونس خلال الحملة المرينية. فلما عاد السلطان المريني أبو الحسن إلى تونس بعد هزيمته أمام القبائل العربية قرب القيروان في المعركة التي دارت في بداية سنة 749هـ/أفريل 1348م، وجد الطاعون قد عمها وأهلك الكثير من سكانها وأدخل الفوضى والخلل على الحياة الادارية والاقتصادية بالمدينة وارتفعت الوفيات حتى أنه في شهر ربيع الأول عام 749هـ/جوان 1349م كان يموت يوميا ألف شخص حسب بعض المصادر. كما أن ابن خاتمة ذكر أنه في بعض الأيام بلغ عدد الموتی بمدينة تونس 1202 ومدينة تلمسان 700 وبلنسيه 1500 وميورقة 1252 (24 ماي 1348) والمرية 70.
   ويبدو أن الجيش المريني لما غادر أفريقية منوها إلى فاس ساهم في نشر الطاعون على طول الطريق التي سلكها، ولكن هذا لا يعني أن المرض انتقل إلى تلك الجهات أي المغرب الأوسط والمغرب الأقصى مع الجيش المريني اذ كان الوباء وصل من قبل هذه المناطق كما ذكرنا عن طريق المواني البحرية. وتواصل الوباء في افريقية والمغرب سنة 750هـ/1349م فيذكر ابن بطوطة أن أمه ماتت به خلال هذه السنة بمدينة تازا بالمغرب الأقصی، ونجده كذلك في الأندلس سنة 751 هـ/ مارس 1350م حيث أهلك عددا من جيش الفنسو ملك قشتالة الذي كان يحاصر المسلمين في جبل طارق.
   ورغم تحزؤ الأرض المغربية لكثرة السلاسل الجبلية وامتداد الصحاري فإن الطاعون الأعظم كان من الأوبئة النادرة التي امتازت بالشمول يقول ابن الخطيب: "ثم يتصل الفساد حسبما قدمنا، وشمل على هذه الوتيرة أكثر المعمور فحرز ما هلك من نوع الانسان به في هذا الوقت المحدود بسبعة الأعشار، ولم يتقدم فيما اتصل بأولي الاطلاع من تواريخ الأمم وباء بلغ مبلغه من أخذه ما بين لابتي المشرق والمغرب واتصاله بالجزائر المنقطعة في البحر واستصاله أهل البيت والقرية على سبيل واحدة، يتعلق بالناس تعلق النار بالحلفاء والهشيم بادنی ملابسه من إلمام بمريض أو ربما بمباشرة ثوبه وآنيته". ولقد تميز الطاعون الأعظم كما هو ثابت في مصادرنا بالقوة والشمول مما جعل نتائجه الديموغرافية والاقتصادية هامة وبذلك لايمكن الاستغناء عن درس هذا الوباء التاريخي لفهم التحول الذي شهده الاقتصاد والمجتمع المغربي في منتصف القرن 8هـ/ 14م، حتى أن ابن خلدون اعتبر التدمير الذي ألحقه بالمجتمع المغربي لا يقل عن التخريب والتدمير الذي خلفه الغزو الهلالي.
   وكان عدد الهلکی مرتفعا بإجماع المصادر، شمل ثلث أو نصف سكان المناطق المصابة وربما تجاوز ذلك وذلك حسب مصادر موثوق بها مثل ابن خلدون الذي فقد أمه وأباه وعددا من أساتذته في الطاعون أو ابن الخطيب الذي ذكر ان الوباء "شمل على هذه الوتيرة أكثر المعمور فحرز ما هلك من نوع الانسان بسبعة الأعشار ولم يتقدم فيما اتصل باولی الاطلاع من تواريخ الأمم خبر وباء بلغ مبلغه من أخذه ما بين لابتي المشرق والمغرب واتصاله بالجزائر المنقطعة في البحر واستئصاله أهل البيت والقرية على سبيل واحدة يتعلق بالناس تعلق النار بالهشيم بأدنى ملابسه، من إلمام . مريض أو بمباشرة ثوبه وآنيته وفيما ظهر فيه نفث الدم أشد وعند قبض النفوس أعظم". ومن الطبيعي أن ارتفاع عدد الهلكى يعطل ورما يشل النشاطات الاقتصادية، فهو يمنع الزرع والحصاد ويؤدي الى اهمال المواشي والدواب يشير المقريزي إلى ذلك بوضوح يقول في السلوك: "وعم الموتان أرض افريقية بأسرها، جبالها وصحاريها ومدنها، وجانت من الموت وبقيت أموال العربان سائبة لا تجد من يرعاها".
   وكثرة الموت تعني قلة اليد العاملة في المدينة وفي الريف، وهذا يؤثر سلبيا على إنتاج المواد الغذائية فتصبح نادرة مما يولد المجاعة وفعلا فقد كان الطاعون الأعظم بافريقية مصحوبا بالمجاعة وبارتفاع السعر حتى بيع قفيز القمح بثمانية دنانير كما ذكر ابن الشماع.
   ولم تكن هذه الضربة القاسية التي أصابت الاقتصاد والمجتمع المغربي نتيجة الوباء ذات مفعول ظرفي، بل أن الطاعون الأعظم كان من العلامات الدالة على التحولات العميقة التي كانت تدفع بالمجتمع المغربي إلى الركود والضعف والتراجع. وتفطن ابن خلدون الذي عاصر الطاعون الأعظم إلى العلاقة بين مثل هذه الكارثة والتحولات الإجتماعية بل الحضارية التي شهدها بلاد المغرب في عهده يقول في المقدمة: "وأما هذا العهد وهو أواخر المائة الثامنة (أواخر القرن الرابع عشر ميلادي) فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة". وهذا التحول ابتدأ حسب ابن خلدون في القرن 5هـ/11م مع غزو القبائل الهلالية للمغرب العربي وتعمق هذا التحول في منتصف القرن 8هـ/14م وذلك نتيجة "إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران و محاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها، وتداعت الى التلاشي والاضمحلال أحوالها، و انتقض عمران الأرض بانتفاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدلت المساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالاجابة. والله وارث الأرض ومن عليها واذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث".
   وهذا النص يكفي وحده للدلالة على الأهمية التي يكتسبها الطاعون الأعظم بالنسبة لكل من يهتم بدراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمغرب الإسلامي خلال الفترة الأخيرة للعصر الوسيط. وتزداد أهمية هذا الوباء عندما نعلم أنه كان منطلقا لسلسلة من الطواعين استمرت حتى القرن التاسع عشر.

ب) سلسلة الطواعين التي تلت الطاعون الأعظم:

   اعتمادا على مصادرنا أحصينا أكثر من عشرة طواعين وقعت بلاد المغرب خلال الفترة التي ابتدأت بالطاعون الأعظم واستمرت حتى منتهى القرن 9ه/15م، أي على طول قرن ونصف القرن وهو معدل قريب من المعدل الذي قدمه الفرنسي بير بان (Biraben) في دراسة عامة للطاعون بفرنسا والبلدان الأروبية والمتوسطية.
   على طول هذه الفترة نسجل عودة الطاعون كل عشرة أو عشرين سنة: (748-751هـ/1347-1350م)، 766هـ/1367م، 769هـ-1367م، 796هـ1367م، 805هـ/1402م، (815-818هـ/1412-1415م)، (844-847هـ/1440-1443م)، 856-857هـ/1453-1452م)، (871-873هـ/1466-1468م)، (898-899هـ/1492-1493م)، (905-906هـ/1498-1499م).
   الطواعين التي جاءت بعد الطاعون الأعظم وكانت عبارة عن إستفاقة للوباء الأصلي، وهي بذلك أقل فتكا منه، بل إن بعضها كان محليا ذا نتائج محدودة، على أن بعضها الآخر كان كثير الفتك فطاعون 844-847هـ/1440-1443م بالإضافة إلى عامة الناس "هلك فيه جمع من العلماء والأعيان". وطاعون 871-873هـ/1466-1468م الذي ظهر بالأندلس ثم انتشر بافريقية كان من أعظم أوبئة القرن التاسع الهجري وقد استمر هذا الطاعون بتونس طيلة السنة من شهر ذي القعدة عام 872هـ /جوان 1468 إلى نفس الشهر من السنة الموالية "ولم يزل يتزايد، كما ذكر الزرکشي، حتى بلغ عدد الهلکى به الفا کل يوم". أما ابن أبي دينار فيذكر أن الوباء عظم بتونس "وقيل أنه بلغ عدد الموتی به إلى أربعة عشر ألفا في كل يوم، وحصر في الزمام أربعمائة ألف غدا من لم يدخل في الزمن نحو المائة ألف. أما أدورن Adorne الرحالة الهولندي الذي زار تونس سنتين بعد هذا الوباء فقد قدر عدد من مات بالعاصمة خلال الطاعون .ماتين وستين ألفا.

جدول أهم الأوبئة والطواعين بالمغرب الإسلامي خلال القرنين 8-9هـ/14-15م


   وقد انتهى القرن التاسع الهجري بوباء عظيم وقع عام 898- 1492/هـ899 -1493م مات فيه خلق كثيرون ومات به السلطان الحفصي أبو زکريا في 9 من شعبان، بماذا يمكن تفسير هذا التواتر وهذا الظهور المتكرر للطاعون؟
   تفطن مفكروا القرون الوسطى إلى هذه العودة الدورية للوباء وكان الحسن الوزان أكثرهم وضوحا في بسط هذه الظاهرة يقول: "إن الوباء يظهر في بلاد البربر على رأس كل عشرة سنوات أو خمس عشرة أو خمس وعشرين سنة، وعندما يأتي يذهب بالعدد العديد من الناس".
   هذه العودة الدورية ناتجة عن عدة عوامل متداخلة لا يكفي الواحد منها لتفسير هذه الظاهرة، نكتفي هنا بطرح ثلاثة من هذه العوامل تبدو لنا الأساسية:
1) الحصانة: ذلك أن من يصاب بالطاعون ثم يعاني من مرضه يصاب بحصانة ضد هذا الوباء ويستمر فعل الحصانة هذا على مدى الجيل الذي أصيب بالطاعون.
2) المجاعات: تذکر مصادرنا عدة أوبئة مصحوبة بالمجاعة فماهي نوعية العلاقة بين الظاهرتين؟
   يبدو أن تتالي عدة سنوات من القحط والشدة يهيء الأرضية للطاعون وغيره من الأمراض، ذلك أن نقص التغذية يجعل السكان أكثر قابلية للإصابة بالعدوى، وأقل صمودا في مواجهة المرض. ولكن الوباء هو الآخر قد يسبب المجاعة والشدة والموت المرتفع في صفوف القوى العاملة وكذلك تقلص التبادل التجاري خاصة استيراد المواد الغذائية من حبوب وتمور وغيرها يولد المجاعة. لذلك لانستغرب أن تتحدث مصادرنا عن: "قحط شديد ووباء كثير ..." "وباء وغلاء عظيم..." "الوباء والجوع..." "المجاعة الشديدة والوباء العظيم..."
   ولكن هذا الالتقاء بين الظاهرتين لا يعني علاقة الزامية بينهما، اذ أحصينا كثيرا من المجاعات لم تكن مصحوبة بالوباء، كذلك تذکر مصادرنا بعض الأوبئة حدثت في سنوات رخاء. فالمجاعة وان لم تكن من العوامل المحددة لظهور الوباء فهي ولاشك من العوامل التي تسهل انتشاره وتهيء له الأرضية التي تجعله شديد الوقع قتالا.
3) مخازن الفيروس: (Reservoirs de vinus) ولعل أهم عامل يمكن من تفسير العودة الدورية للطاعون يكمن في مخازن الفيروس وهذا التفسير يدعمه علم الأمراض الحديث، اذ أثبتت الدراسات الطبية أن المغرب الإسلامي يحتوي على أكثر من مخزن للفيروس. كذلك يرى بير بان (Biraben) أن عودة الوباء كل 10 أو 12 سنة مرتبط بسلع الشمس Les taches solaires التي تؤثر على كثرة القواضم البرية. تتولى براغيت هذه القواضم نقل الفيروس منها إلى الانسان. إذا فالظهور الدوري للطاعون بالمغرب العربي ما هو إلا انعكاس لظهور هذا الوباء بين قواضم المنطقة أو قواضم المناطق المجاورة.

II- الطاعون في إطاره الجغرافي:

   ان جغرافية شمال افريقيا الطبيعية والسكانية تمكننا من فهم الكثير فيما يخص انتشار الطاعون وغيره من الأوبئة في مختلف مناطق بلاد افريقية والمغرب. فهناك عوامل تحد من انتشار الوباء وتجعله محليا في كثير من الأحيان، منها كثرة السلاسل الجبلية التي تعزل المناطق عن بعضها وتحد بالتالي من تبادل العدوى بينها، فسكان جبال الأطلس أو جبال الريف أو جبال القبائل يكونون في كثير من الأحيان في حمى من الأوبئة المنتشرة في السهول المحيطة.
   كذلك امتداد الصحاري على مساحات شاسعة من بلاد إفريقية والمغرب بحة من انتشار الوباء، والقبائل التي تسكن الواحات أو تنتقل عبر الصحراء والسياسب، هي الأخرى تكون في كثير من الأحيان في حمي من الأوبئة التي تكتسح المناطق الشمالية الساحلية، خاصة أن المناطق الجنوبية الصحراوية حيزت دائما بضعف الكثافة السكانية مما يحد من كثرة الاحتكاك بين السكان وبالتالي حد من انتشار الأمراض المعدية . وقد لاحظ الحسن الوزان هذا الاختلاف من حيث انتشار الوباء بين المناطق الشمالية الساحلية والمناطق الجنوبية الصحراوية بالمغرب العربي، فذكر أن الطواعين تظهر بصورة دورية في المناطق الشمالية ويسميها أرض البربر كل عشرة أو خمسة عشرة أو خمس وعشرين سنة، في حين أنها لم تظهر بالمناطق الجنوبية الصحراوية ويسميها بنوميديا منذ أكثر من قرن أي طيلة القرن 9هـ/15م. وأثناء حديثه عن الطاعون الأعظم ذكر ابن الخطيب أن "الأخبار تواترت بسلامة أماكن لا تطوها الطرق ومنقطعة عن الناس".
   هناك عوامل أخرى جغرافية تساهم في نشر الوباء وجلبه إلى المغرب من مناطق أخرى. من هذه العوامل البحر الذي يحيط بالمنطقة من ثلاث جهات، ذلك أن الموانيء البحرية في القرون الوسطى والعصر الحديث كانت أسرع طريق النقل العدوى، اذ أن السفن الواردة على المغرب سواء ذلك من أروبا: من الموانيء الايطالية أو الفرنسية أو من الشرق وخاصة من الاسكندرية أو من موانئ الشام تحمل معها الفيروس اما بواسطة الفئران والقواضم التي تتحول من السفن الرأسية بالمواني إلى الرصيف، كذلك ينتقل الفيروس عن طريق من هو مصاب بالوباء من البحارة.
   وقد تفطن المعاصرون إلى خطورة العدوى التي تحملها السفن فقد ذكر ابن الخطيب أن وقوع المرض " في مدن السواحل المستصحبة حال السلامة إلى أن يحل بها في البحر من عدوة أخرى قد شاع عنها خير الوباء رجل مونف فيكون تاریخ ظهور المرض بها مقارنا لحلوله".
   وكانت بذلك المدن المينائية عرضة أكثر من غيرها لسائر الأوبئة وكانت حل الطواعين التي اكتسحت المغرب طواعين بحرية تظهر في الموانئ ومنها تنشر عبر المناطق الأخرى.
   لذلك كثيرا ما تشير المصادر إلى وجود الوباء بالمواني الكبرى مثل ميناء تونس، بنزرت، صفاقس، المهدية، سوسة، الجزائر، وهران، سيئة، طنجة أو المدن القريبة من الموانئ مثل قسنطينة، تلمسان، فاس ومراكش.
  على عكس ذلك يقل الطاعون بالمدن الداخلية وخاصة المدن الصحراوية البعيدة عن السواحل.
   إلى جانب الموانئ لعبت شبكة الطرقات البرية دورا كبيرا في نقل الوباء من منطقة إلى أخرى، فقوافل الحجاج والتجار القادمون من الشرق عبر مصر وبرقة كثيرا ما تنشر الوباء في طریق مرورها. كذلك القوافل المتنقلة بين شرقي المغرب وغربيه بالاضافة الى الجيوش تلعب نفس الدور، وكنا ذكرنا كيف انتقل الطاعون الأعظم من تونس إلى المغرب الأوسط والأقصى صحبة جنود السلطان المريني أبي الحسن.
   كذلك التنقلات لزيارة الأضرحة والأولياء تلعب دورا هاما في نشر الوباء خاصة في فترات الشدة وكثرة الموت والمصائب بزداد اقبال الناس على مثل هذه الزيارات.
   أما الترحال فكان يلعب في نفس الوقت دورا سلبيا وايجابيا في نشر الطاعون. نهر يمكن أن يعطل انتشار العدوى اذ بامكان القبائل الرحل أن تفر أمام المرض وتتجنب الوباء وتسكن المناطق المعزولة الصحراوية وتبتعد عن المناطق الموبوءة، وفعلا نقد سلمت بعض القبائل الرحل من المرض خلال الطاعون الأعظم فقد ذكر ابن الخطيب أنه: "صح النقل سلامة أهل العمود والتحالين من العرب بافريقية وغيرها لعدم انحصار الهواء وقلة تمكن الفساد منه" كما يمكن للترحال أن يسهل انتشار الوباء وذلك بالانتقال مع الرحل من منطقة موبوءة إلى منطقة سليمة.
إنتهى ثلثا المقال.

جميع الحقوق محفوظه © وادي سهر

تصميم الورشه