إمارة نكور -بنو صالح- أقدم أسرة حاكمة في المغرب الإسلامي [91-410هـ]

0

      لا غرم عليك ولا لوم إن كان مبدأ علمك بهذه الإمارة اليوم، فما هي بالشهيرة ولا الكبيرة ولا الكثيرة الذكر في كتب التاريخ وما اتسعت في المجلدات لها سوى صفحات، ولا كانت المؤثرة مفصليا في حركة التاريخ المغربي والأندلسي بحكم قربها من جزيرة الأندلس، إلا أن لها سابقة وراية مرفوعة في التاريخ المغربي من علو لكونها أعرق سلالة حاكمة، ولإشتمالها على أحداث مرت بها رفقة المنطقة في العصر الإسلامي الأول حتى سقوطها.

 موقعها:

تحمل الإمارة إسم عاصمتها نكور، وهي مدينة في أقصى شمال المغرب الأقصى في منطقة الريف، بنيت وسميت على إسم النهر المار عليها، لم تتجاوز سلطة الإمارة وأراضيها طوال حكمها منطقة الريف، مجاورة للدولة الإدريسية جنوبها والسليمانية والرستمية شرقها

تأسيسها:

وكما أسلفنا أن أصول هذه الأسرة وإمارتها ضاربة في القِدم، فإن رواية تأسيسها ترجعها لعهد الفتوح الأولى، بقدوم مؤسسها صالح الحميري مع بعوث الفتح الأولى إذ كان من الجند اليمانية وتوغل في المنطقة داعيا لله مبشرا بدينه، فتمكن من كسب ود المحليين بها بعد تقلبات إلى أن قدموه وعظم شأنه وأولاده الذين فيما بعد سيأسسون مدينة نكور، ومن أقدم ذاكريها أبو عبيد البكري الأندلسي المتوفى سنة 487هـ، الذي تطرق لتاريخ الأسرة الحاكمة فيها بعد إعطاء تفاصيل كثيرة عن مدينة نكور وأحوالها والّذي أسّسها [وبناها سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور الحميري، وصالح بن منصور هو المعروف بالعبد الصالح وهو الّذي افتتحها زمان الوليد بن عبد الملك ودخل أرض المغرب في الافتتاح الأوّل، فنزل مرسى تمسامان على البحر بموضع يقال له بدكو...وعلى يديه أسلم بربرها وهم صنهاجة وغمارة، ثمّ ارتدّ أكثرهم لمّا ثقلت عليهم شرائع الإسلام وقدّموا على أنفسهم رجلا يسمّى داود ويعرف بالرندي وكان من نفزة، وأخرجوا صالحا من البلد. ثمّ تلافاهم الله بهداه وتابوا من شركهم وقتلوا الرندي واستردّوا صالحا، فبقي هناك إلى أن مات بتمسامان ودفن بقرية يقال لها الأقطى على شاطىء البحر وقبره بها يعرف إلى اليوم. وكان له من الولد المعتصم وإدريس أمّهما صنهاجية وعبد الصمد، فولّوا المعتصم ومكث فيهم يسيرا ومات فولي سعيد بن إدريس وهو الّذي بنى مدينة نكور على ما تقدّم][البكري، المسالك والممالك 2/765] ويذكر بن خلدون رواية مشابهة رغم تأخره بزمن كثير عن البكري إلا أنه يورد تفاصيل أكثر بخصوص أصل صالح بن منصور وطريقة وسنة قدومه إذ يقول: [لما استولى المسلمون أيام الفتح على بلاد المغرب وعمالاتها واقتسموه وأمدّهم الخلفاء بالبعوث إلى جهاد البربر، وكان فيهم من كل القبائل من العرب. وكان صالح بن منصور الحميري من عرب اليمن في البعث الأوّل. وكان يعرف بالعبد الصالح فاستخلص نكور لنفسه، واقطعه إياها الوليد بن عبد الملك في أعوام إحدى وتسعين من الهجرة، قاله صاحب المقياس، ...فأقام صالح هنالك لما اقتطع أرضها وكثر نسله واجتمع إليه قبائل غمارة وصنهاجة مفتاح وأسلموا على يده وقاموا بأمره، وملك تمسامان، وانتشر الإسلام فيهم. ثم ثقلت عليهم الشرائع والتكاليف وارتدّوا وأخرجوا صالحا وولّوا عليهم رجلا من نفزة يعرف بالرندي. ثم تابوا وراجعوا الإسلام وراجعوا صالحا فأقام فيهم إلى أن هلك بتمسامان سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وولي أمره من بعده ابنه المعتصم بن صالح، وكان شهما شريف النفس كثير العبادة. وكان يلي الصلاة والخطبة لهم بنفسه][تاريخ بن خلدون 6/283] وتكون بهذا النص الإنطلاقة الأولى لبني صالح في المنطقة متزامنة مع فتح الأندلس 92-107هـ ويصدق على نفس الرواية ابن الخطيب الغرناطي وابن عذاري المراكشي، إلا أن الوحيد الذي ينقل تشكيكا في نسب الصالحيين هو الجغرافي اليعقوبي الذي عاش في القرن الهجري الثالث [...مملكة رجل يقال له صالح بن سعيد يدعي أنه من حمير، وأهل البلد يزعمون أنه من أهل البلد نفزي، واسم مدينته العظمى التي ينزلها باكور][اليعقوبي، البلدان 196] ورغم ما في نص اليعقوبي من غلط في ذكر مدينة نكور التي سماها باكور إلا أن الظاهر أن نص اليعقوبي قد تزامن مع فترة إضطراب في الإمارة النكورية وله سياقه الخاص وسط تشاحن بين الصالحيين وعامة أهل بلدهم حتى أنكروا نسبهم إذ ثاروا عليهم في هذه الفترة وهو ما سيأتي لاحقا في هذا المقال، بعد تحينهم الفرصة بعد غزو النورمان (الفايكينغ) لها.

إغارة (الفايكينغ) النورمان على لنكور:

تظهر إمارة نكور مرة أخرى في الأحداث بعد ظهور طارئ الغزو البحري النورماني على شواطئ البحر المتوسط في القرن الثالث، إذ أغار النورمان أو المجوس الأردمانيون كما تسميهم المصادر الإسلامية القادمون من إسكندنافيا على إشبيلية وتم صدهم ودحرهم بعد أن فعلوا ما فعلوا بها وأغاروا على سواحل المغرب وكانت نكور من المناطق المصابة، وينقل لنا البكري مجددا عن هذه الوقائع قائلا: [وغزا المجوس لعنهم الله مدينة نكور سنة أربع وأربعين ومائتين، فتغلّبوا عليها وانتهبوها وسبوا من فيها إلّا من خلصه الله بالفرار، وكان فيمن سبوا أمة الرحمن وخنعولة ابنتا واقف بن المعتصم، ففداهما الإمام محمّد بن عبد الرحمن. وأقامت المجوس بمدينة نكور ثمانية أيّام][البكري، المسالك والممالك 2/766]
ونجد من نص البكري مدى قوة العلاقات الصالحية الأموية الأندلسية وتكاتفهما في صد الخطر المشترك، ومساعدة محمد بن عبد الرحمن الأوسط في فداء بنات أمراء بني صالح من النورمان وتحريرهم، ويبدو أن العلاقات الحسنة تعود لمرحلة تأسيس الإمارة الاموية في الاندلس إذ كما يذكر اليعقوبي قد مر مؤسسها صقر قريش عبد الرحمن الداخل على نكور قبل جوازه إلى الأندلس وتملكها [ومن هذه المدينة جاز رجل من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان ومن معه من آل مروان إلى جزيرة الأندلس لما هربوا من بني العباس ومملكة صالح بن سعيد الحميري مسيرة عشرة أيام...][اليعقوبي، البلدان 196] والظاهر أن الأمويين حفظوا للصالحيين معروفهم السابق في جدهم وردوه لهم في بناتهم.
المرء يُعرف فِي الأَنَامِ بِفِعْلِهِ وَخَصَائِل المَرْءِ الكَرِيم كَأَصْلِه
فِي الجَوِّ مَكْتُوْبٌ عَلَى صُحُفِ الهَوَى مَنْ يَعْمَلِ المَعْرُوْفَ يُجْزَ بِمِثْلِهِ

 الثورة على بني صالح:

كان طارئ النورمان طارئا شديدا على نكور التي كانت تنعم بحياة هادئة بين جيرانها المتناغمين معها، فكان هذا الخرق مؤذنا بسقوط هيبة أمرائها بعد إستباحة عاصمتها لثمانية أيام لا وبل سبي أميراتها، فإن كانت بذور العصيان والتذمر والتمرد موجودة فإن هذا الحدث كفيل بإخراج زرعها، وهو ما حدث مباشرة بعد هذه الغارة سنة 244هـ إذ قامت القبائل المحيطة والماكثة في أراضي الإمارة بالثورة على سعيد بن إدريس، إلا أنه تمكن من استرجاع هيبته وقمع الثائرين الطامعين في إسقاط إمارته، ويقول ابن عذاري المراكشي في هذا: [وقامت البرانس على سعيد بن إدريس، فأظفره الله عليهم وهزمهم وقتل رئيسهم. ثم رجع من بقى منهمك إلى الطاعة. ومات سعيد بن إدريس بعد أن ملكهم سبعا وثلاثين سنة][ابن عذاري، البيان المغرب1/172] أما بن خلدون فيذكر تفاصيل أكثر في نفس السياق إلا أنه يعطينا سياق ما نقله اليعقوبي عن طعن أهل بلده في نسبهم وخصوصا صالح بن سعيد بن أدريس الذي حكم بعد والده ومدى التشاحن القائم داخل الإمارة [قام بأمره ابنه صالح بن سعيد فتقبّل مذهب سلفه في الاستقامة والاقتداء وكان له مع البربر حروب ووقائع إلى أن هلك سنة خمسين ومائتين لاثنتين وسبعين سنة من ملكه][تاريخ بن خلدون 6/284] إذ لم تنطفئ الثورات بعد إنطلاق شرارتها وواصل الإبن وراء الأب محاولين إطفاءها، وبدأ الضعف يظهر في جسد الإمارة بعد ظهور التنازع بين أبناء صالح بن سعيد بعد وفاته إلا أنه لم ينهها، فالخطر الحقيقي والذي مسح كافة الدول المغربية في ذلك العصر كان الخطر الشيعي العبيدي الذي زحف على الأخضر واليابس في المغرب مغيرا من خريطته.

 سقوط نكور:

لقد كانت إمارة نكور منذ قيامها إمارة إسلامية سنية المذهبة على العقيدة الصافية منذ قدوم العبد الصالح للدعوة في أهلها، لم يخالط مذهبهم درن ولا خلط بقيت نكور تحت ظل التأثير الأندلسي بإنتقال التأثير الأوزاعي حين كانت الأندلس أوزاعية المذهب قبل جعل هشام الرضا الاموي المذهب المالكي هو المذهب الأوحد في الأندلس أين لابد أثر وأنتشر هذا في نكور ويذكر البكري أحد أمراء نكور الذين تفقهوا في المذهب المالكي [وكان لسعيد من الولد منصور وحمود وصالح وزيادة الله والرشيد وعبد الرحمن الشهيد «5» ومعاوية وعثمان وعبد الله وإدريس. وكان عبد الرحمن فقيها بمذهب مالك وحجّ أربعا وعبر إلى الأندلس للجهاد][البكري، المسالك والممالك 2/766]، وبقيت على هذا الحال حتى ظهور الدعوة العبيدية، وكانت نكور من المناطق المستهدفة وحتى الأندلس بإرسال بعض الدعاة، إلا أن نكور وصلتها دعوة رسمية من عبد الله "المهدي" إلى سعيد بن صالح بن سعيد بن إدريس الحميري وخاطبه مخاطبة شعرية:
وإن تستقيموا أستقم بصلاحكم ... وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا
وأعلو بسيفي قاهرا لسيوفكم ... وأدخلها عفوا واملؤها قتلا
فكان رد بني صالح بأن كتب إليه شاعرهم الأحمس الطليطلي بأمر يوسف بن صالح أخي الأمير سعيد:
كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ... ولا علم الرحمن من قولك الفضلا
وما أنت إلّا جاهل ومنافق ... تمثّل للجهّال في السنّة المثلى
وهمّتنا العليا لدين محمّد ... وقد جعل الرحمن همّتك السفلى

وكان الأمر بعد إسقاط جميع الدول المغربية وقتها من طرف العبيديين من سجلماسة إلى القيروان إلى تاهرت عاصمة الرستميين التي توجه منها عامل العبيديين لإسقاط أخر ما تبقى من الكيانات المعارضة، ودارت المعارك بينهما سنة 304هـ أين غلب بنو صالح لأيام قبل إنهزامهم وقطع رؤوسهم وإرسالها إلى إفريقية في رقادة لتعلق فيها.

إسترجاع نكور وعودة بني صالح:

كانت الاندلس وجهة أمراء بني صالح الاولى بعد إنهزام جيشهم أمام المد العبيدي الجارف، وكانت مالقة محطتهم وملجأهم، أين استقبلهم الناصر الأموي بصدر رحب وهو الذي كان يحاول إدارة الصراع ضد العبيديين لقمع حركتهم التي إلتهمت المغرب بدعمه للأدارسة لمقاومتهم فكان لبي صالح نصيب من الدعم، وبعد 6 أشهر وجد بنو صالح فرصتهم وهبت الرياح بما تشتهي سفنهم التي عادت من الأندلس حاطة بميناء تمسامان أين بويع أصغر أولاد سعيد وهو صالح آخر الذي كان بايع الناصر الأموي خليفة، فكان النصر ورد العبيديين عن نكور وبداية إنكسارهم في المغرب وطرد التشيع منه ولا أحسن من أن نختم بالبكري الذي تكرر كثيرا في هذا المقال عن هذه النهاية السعيدة إذ يقول البكري رحمه الله [وكتب صالح بالفتح إلى عبد الرحمن بن محمّد، فقرئ كتابه بجامع قرطبة ونسخه في سائر بلاد الأندلس، وأمر بإمداد آل صالح بما يجلّ من الأخبية الشريفة والآلة العجيبة والكساء الرفيعة والسروج والحلى والبنود والطبول والدروع وجميع السلاح حتّى عوّضهم الله عزّ وجلّ أكثر ممّا زال عنهم. فتوطّد الملك لصالح بن سعيد...ومات صالح بن سعيد بعد أن ملك عشرين سنة. ولم يزل آل صالح على السنّة والجماعة والتمسّك بمذهب مالك بن أنس رضي الله عنه، وكان صالح وابنه سعيد يصلّيان بالناس ويخطبان ويحفظان القرآن][البكري، المسالك والممالك 2/772]

وبين سعيد وصالح كانت هذه المملكة سعيدة صالحة حتى سقط حكم آل صالح في العقود القادمة إلى إندثار مدينة نكور وهدمها على يد بن تاشفين [ نهض يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بعدها إلى الريف وافتتح كرسيف ومليلة وسائر بلاد الريف وخرّب مدينة نكور فلم تعمّر بعده][تاريخ بن خلدون، 6/247]

والحمد لله.

جميع الحقوق محفوظه © وادي سهر

تصميم الورشه