كتاب الكفاح المسلح في عهد الأمير عبد القادر -الفصل الأول: البيعة وتنظيم الدولة ص11-37.

0


    بسم الله الرحمن الرحيم، هذه محاولة لنشر الكتاب نصيا بدل تصويره حتى يسهل إيجاد ما فيه عند البحث ويسهل النقل والقراءة على القراء والباحثين، ونشره على أجزاء تدوينية ثم جمعه كاملا ونشره بصيغة وورد وpdf وهو من مقدمة وستة فصول، كل فصل في تدوينة إن شاء الله قبل الجمع النهائي.

الجزء السابق من الكتاب: المقدمة

الفصل الأول
البيعة وتنظيم الدولة


لقد أصبح من المألوف عند جميع المواطنين العرب والجزائريين بصفة خاصة أن الأمير عبد القادر يرمز إلى المقاومة المسلحة التي لاقاها الاحتلال الفرنسي في البلاد

      وأن هذه الشهرة التي لم يحظ بها بطل غيره في تاريخ الجزائر كله لمتأتية عن كونه لم يكن، عندما وقع الغزو، واحدا من قادة الإيالة العسكريين ومع ذلك استطاع أن ينظم جيشا تمكن به من الوقوف، مدة خمسة عشر عاما، في وجه قوات استعمارية عاتية يقودها العديد من الضباط الساميين الذين حنكتهم التجارب الميدانية بعد أن تخرجوا من المدارس الحربية.

      وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأمير واحد من القادة القلائل في العالم الذين يجمعون بين الشجاعة في المعركة، والتحلي بروح المسؤولية في الحرب والسلم، وذكاء خارق في المناورات العسكرية وتنظيم الجيش، وبين شخصية أدبية وعلمية مرموقة في ذلك الحين، وبعبارة أوجز، فإنه كان يجمع بين السيف والقلم، وينطبق عليه، بالفعل، قول المتنبي:

-ص11-

فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم

      وينسب عبد القادر نفسه إلى ذرية علي بن أبي طالب، وتقول كتب التاريخ: أنه ولد في مطلع سنة 1223هـ الموافقة لسنة 1808م وهي السنة التي شاهدت الداي علي خوجة غول يتقلد زمام الحكم في إيالة الجزائر، وفي تلك السنة، أيضا، قرر نابوليون إلغاء كلمتي "جمهورية فرنسية" من العملة الامبريالية، وارتقى الى رتبة نقيب السيد بيجو الذي سيقترن اسمه باسم الأمير، والذي كان آنذاك يحارب في صفوف الجيش الفرنسي بإسبانيا التي سقطت في نفس العام، وأجبرت عائلتها المالكة على التنازل عن العرش لفائدة جوزيف بونابرت، ودائما في سنة 1808، تجدر الإشارة إلى أن الأخوين الراهبين لوماني فد نشرا كتابهما "تأملات حول وضع الكنيسة".

      ونشأ الأمير في جو عائلي يسوده العلم والعمل، فساعده ذلك على اكتساب خصال الإنسان العربي المتشبع بالأخلاق الإسلامية السامية.

      وبعد أن تعلم على يد والده محي الدين، مبادئ القراءة والكتابة، وأتم حفظ كتاب الله، سافر إلى مدينة أرزيو حيث أخذ عن قاضيها سيدي أحمد الطاهر، علم الفلك والحساب

-ص12-

والجغرافيا والتاريخ والمعاصر، ويذكر أنه بقدر ما كان سريع الهضم لكل ما يقدم له من علوم كان يظهر مهارة لا مثيل لها في ممارسة حياة الفروسية مما جعله محل إعجاب قبيلته والقبائل المجاورة.

كانت هذه المرحلة الأولى في طلب المعرفة سنة 1822، وهي سنة حافلة بالأحداث الدولية، ففيها توفي الدبلوماسي الإنجليزي الشهير كاستلري الذي دورا أساسيا في مؤتمر فيانة، والذي يذكر دائما إلى جانب الداهيتين ميترنيخ وتاليران، وفي هذه السنة أيضا ، أعلن عن تكوين إمبراطوريتين جديدتين في العالم، احداهما هي تلك التي أسسها في المكسيك ، الجنرال الإسباني ايتربيد الذي لقب نفسه أوغستين الأول لكنه لم يحتفظ بمجده أكثر من عام واحد، إذ أجبر على التنازل من العرش والهروب إلى إيطاليا تحت ضغط الجمهوريين الذين سيعدمونه رميا بالرصاص يوم 19 جويلية 1824 عندما حاول الرجوع طمعا في استرجاع الحكم، أما الثانية فإمبراطورية البرازيل التي أسسها ابن ملك البرتغال بطرس الأول الذي سيحتفظ بالحكم إلى سنة 1831 ثم يتنازل عنه لإبنه الذي سيظل متمسكا به إلى غاية 1889، وأخيرا، لا يفوتنا أن نذكر بأن هذه السنة قد شاهدت ظهور كتاب الأديب المتشائم بوشكين وعنوانه أسير القوقاز.

-ص13-

وتذكر بعض المصادر[1] أن هذه الإقامة في وهران، على قصرها لأنها لم تدم أكثر من سنة واحدة، قد مكنت الأمير من الاطلاع على الأوضاع الفوضوية، والانحلال الذي كان يعيش فيه المجتمع الجزائري بتلك المنطقة نتيجة تعسف المليشيا، ونحن نعتبر أن هذا القول لا أساس له من الصحة، وأنه مجرد ادعاء يفتقر إلى أدلة وبراهين تدعمه، ذلك أن وهرن كانت حديثة العهد بالاستقلال إذ لم تسترجع من الإسبانيين إلا سنة 1792[2]، وإذا كانت تشكو، آنذاك، من بعض الانحلال الخلقي، فإنها ورثته عن المستعمر الإسباني، لأن أفراد الميليشيا من المسلمين العثمانيين الذي لا صلة لهم بالسكان، ولأن الوجود العثماني بالجزائر، حتى لو اتسم في بعض مراحله بنوع من القسوة تجاه الأهالي، فإنه ظل دائما، يحافظ على مكارم الأخلاق الإسلامية، يدلنا على ذلك ما ذكره السيد ميشال هابار[3] من أن مدينة الجزائر وحدها كانت تشتمل سنة 1830، على 132 من المساجد العامرة وأن كل قرية من الإيالة كانت، قبل الاحتلال الفرنسي، مزودة بمدرستها، وقد قال السيد بيسكاتوري أمين اللجنة الإفريقية وهو يقدم تقريره إلى أعضاء البرلمان الفرنسي: إن سكان مقاطعة وهران الخصبة عديدون وهم أكثر حضارة مما

-ص14-
كنا نتوقع[4]، وبالإضافة إلى ذلك فإن الدايات، في آخر عهدهم، قد سنوا نظاما يقضي بأن يعين في كل مدينة جزائرية، زيادة على السلطة الرسمية، حاكمان ينظمان شؤونها ويحافظان على الامن ويراقبان الشرطة والمؤسسات العمومية: الأول منهما هو شيخ البلد ورئيس الامناء[5] الذي ينتخبونه لما له من خصال حميدة، والثاني هو نقيب الأشراف[6]، ويختار من أعيان الأسر الكريمة ذات النفوذ القوي أو من عائلات المرابطين، ويذكر حمدان خوجه أن هذا الأخير أعلى درجة وأكثر قيمة، لأنه يجمع في بيته، كلما وقعت حادثة، شيخ البلد وسائر الأمناء للبحث عن الحلول الملائمة[7].

            ومهما يكن من أمر، فإن عبد القادر قد رجع إلى القطنة، مسقط رأسه، بعد حوالي عام كما ذكرنا، واندمج في أوساط الطلبة القادمين إليها من مختلف أنحاء البلد للتتلمذ على والد محي الدين، ولما قرر هذا الأخير التوجه إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، اصطحبه معه، وبذلك مكنه من زيارة العديد من الأقطار العربية الشقيقة فتعرف على نمط الحياة في تونس المتحضرة آنذاك، واطلع من خلال الإسكندرية والقاهرة، على

-ص15-

منجزات محمد علي خاصة في المجال الزراعي ومجال الجيش الذي سأل الكثير من دقائق تنظيمه بالطريقة العصرية التي كان عليها بمصر  في تلك الأثناء، وأخيرا تمتع برؤية الحرمين الشريفين، وقبل العودة إلى أرض الوطن توجه مع والده إلى بغداد حيث أدى زيارة  إلى قبر سيدي عبد القادر الجيلاني، وكان الرجوع إلى الجزائر حوالي منتصف 1829 بعد غياب دام ثلاث سنوات.

            وبينما كان عبد القادر في البقاع المقدسة، كانت الدولة العثمانية قد تعرضت للتدخل الأوربي المتمثل فيما يسمى بمعاهدة لندن التي أبرمت يوم 16 جويلية 1827 بين إنكلترا وروسيا وفرنسا والقاضية بفرض حصار بحري على اسطمبول ورغمها على إعطاء اليونان استقلالها الداخلي، وأدى الحصار المذكور إلى نشوب معركة نوارين في يوم 20 أكتوبر 1827 التي نتج عنها تدمير أساطيل تركيا ومصر والجزائر.

وفي تلك الفترة أيضا، وقعت في مقر ديوان الجزائر حادثة المروحة يوم 30 أفريل سنة 1827 ثم تلاها قرار فرنسا الخاص بضرب ذلك الحصار البحري الذي سينتهي يوم 30 ماي سنة 1830 بإرسال الحملة العسكرية التي ستسفر عن احتلال إيالة الجزائر.

أما في سنة 1829، فإن الجيوش الروسية قد أرغمت الباب العالي على توقيع معاهدة أدرنة التي تؤكد استقلال اليونان الذي سيعلن عنه يوم 3 فيفري سنة 1830.

-ص16-

وفي تلك السنة، كذلك ظهر مشروع محمد علي الخاص بالتدخل في الجزائر لحساب فرنسا قصد تأديب الداي بواسطة حملة عسكرية برية من مصر يدعمها الأسطول الفرنسي بحرا، ووقعت في ميناء الجزائر حادثة "البروفانس" وهي السفينة البرلمانية التي كان يركبها السيد دوربروتونيا، والتي وصلت إلى عاصمة الإيالة يوم 30 جويلية للتفاوض مع السلطات الجزائرية حول إمكانية التوصل إلى حل الأزمة القائمة بين الدولتين منذ حوالي عامين، وتذكر المصادر أن السفينة أبحرت بعد فشل المفاوضات.

وبذلا من أن تأخذ طريقها مباشرة إلى فرنسا، مالت كثيرا إلى الساحل واقتربت من الحصون الحربية حتى ظن بعض القادة الجزائريين أنها تتجسس عليهم فأمر بإطلاق النيران حولها لتبتعد فساعد ذلك على التعجيل بعملية الغزو الاستعماري.

وعندما سقطت مدينة الجزائر، كان على رأس مقاطعة وهران حسن باي، وكان شيخا طاعنا في السن ليس له أطفال لكنه ثري إلى أقصى الحدود، وقد ظل يمارس الحكم في منصبه مدة أربعة عشر عاما، يقول حمدان خوجة أنه طبع، خلالها، ادارته بالنزاهة والاعتدال والاندماج في السكان الذين لم يستعمل العنف ضدهم أبدا، ولأجل ذلك أزدهر بايلك وهران ازدهارا كبيرا، وكان الأهالي يعترفون له بالجميل[8] على تلك الصنائع، غير أن شيخوخته التي حدت من مطامحه وجعلته يمل الحكم ولا

-ص17-

يركن إلا للحياة الهادئة قد دفعته إلى الاستسلام دون مقاومة، معتقدا أن الفرنسيين سيحترمون راحته إذا ما أظهر أنه لا يضمر لهم العداوة، وظل فعلا، يحكم باسم فرنسا مدة سبعة أشهر، تعرض على إثرها إلى مضايقات شديدة وكثير من الاضطهاد، اضطراه للفرار إلى الإسكندرية ومنها إلى مكة المكرمة حيث قضى أيامه الأخيرة.

ومن المؤكد أن سحب القيادة الفرنسية بالجزائر ثقتها من باي وهران ّإنما كان نتيجة لإعلان هذا الأخير عن ولائه لباي التيطري السيد مصطفى بومزراق الذي نصب نفسه باشا على الإيالة، وسك العملة باسمه، ويهذا الصدد، يذكر حمدان خوجة أنه ثبت لديه بأن حسن أرسل للباشا الجديد كثيرا من الأموال والذخائر الحربية، والقهوة وغير ذلك من المؤن الضرورية للقتال، وأخيرا وعده بـأنه سينظم إليه عندما يرى الوقت مناسبا لذلك،[9] ولقد دخل الجيش الفرنسي مدينة وهران يوم 4 جانفي سنة 1831 في عهد المارشال كلوزيل[10] الذي اتصل في حينه بباي تونس يعرض

-ص18-

عليه اسناد بايلك الغرب إلى أحد أقاربه المسمى أحمد باي مقابل شروط وردت في مشروع اتفاقية من اثنتي عشرة مادة سنتعرض إليها في حديثنا عن السياسة الفرنسية بالجزائر في الفترة ما بين 1830 و1848.

ويؤكد الأمير محمد الجزائري أن الباي الجديد تسلم مهامه في أوائل فبراير بعد أن أشهد على نفسه أنه فرنساوي[11]، وكان الغرض من الاتيان به هو محاولة كسب ثقة الأهالي، واقناعهم بأن فرنسا لا ترغب في احتلال البلاد ولا تريد سوى ارسال قواعد الحضارة وتكوين حكومة من الأهالي مقتدرة، تسند إليها إدارة الإيالة، ولقد أدت هذه الدعاية إلى زرع روح الشقاق في صفوف مقاطعة وهران الذين أعلن الكثير منهم عن استعداده للنضال من أجل انتصار تلك الفكرة.

غير أن أحمد باي لم يتمتع طويلا بمنصبه، ذلك، أن الحكومة الفرنسية استدعت المارشال واستبدلته بالجنرال تريزيل[12]

-ص19-

الذي لم يتذوق اللعبة فأعاد الباي المستعار إلى ذويه، وعين الجنرال بوايي[13] حاكما على وهران، وكان ذلك إيذانا ببدء عمليات القتال في بايلك الغرب.

والجدير بالذكر أن الشروع في القتال لم يكن باسم سلطة معينة، أو لفائدة نظام سياسي قائم بذاته، بل أن المعارك الخاطفة التي كانت تقع بين حين لأخر عند أبواب مدينة وهران انكما كانت تعبيرا تلقائيا وطبيعيا عن رفض القبائل المطلق للوجود الاستعماري عل أرضها.

وحينما أحس المقاتلون بالحاجة إلى قائد يوحد كلمتهم فيزيد من قوتهم، أوفدوا من أشرافهم إلى السيد محي الدين والد الأمير عبد القادر، ومقدم الزاوية القادرية آنذاك، يعرضون عليه الزعامة، وكان محي الدين رجلا ورعا، تقيا ومحترما من كل الذين يعرفونه، كما أنه كان مقاتلا شجاعا وعالما، تخرج، على يده، العديد من المثقفين في ذلك الحين، وبالإضافة إلى ذلك، فإن القادرية التي يرأس سائر فروعها في مختلف أنحاء الجزائر، تنظيم ديني يشتمل، في صفوفه، على عدد كبير من

-ص20-

المؤمنين المستعدين لإتباع شيخهم في الطريق الذي يختاره، خاصة إذا كان ذلك الطريق هو الجهاد في سبيل الله.

لكن محي الدين لم يكن مستعدا للقيام بالمهمة الخطيرة التي عرضت عليه فاعتذر بكبر سنه، ووعد، في نفس الوقت بأنه لن يتردد في خوض المعارك وقيادتها، عند الحاجة، ضد الغزاة المحتلين.

وفعلا لقد شرع محي الدين، منذ شهر أفريل سنة 1832، يشن الهجومات المتعددة على دوريات الجيش الفرنسي بالقرب من مدينة وهران، غير أن أهم المعارك التي خطط لها فهي تلك التي ذكرها الأمير محمد في تحفته وعددها ثلاث: وقعتي خنق النطاح الأولى والثانية ووقعة برج رأس العين[14].

ولقد بدأ الاستعداد للمعركة يوم 29 ماي سنة 1832 وإذا كنا نجهل تاريخ انتهائها، لأنها وقعت على مراحل، فإننا نعرف أنها كانت لأنصار محي الدين، وأن الفرنسيين تكبدوا خلالها خسائر فادحة في جميع المجالات، وأن الأمير عبد القادر شارك كمقاتل في صفوف المجاهدين، وخلد ذلك النصر في قصيدة

 -ص21-

طويلة نستخلص منها أنه أبلى بلاء حسنا، وأن حصانه أصيب عدة مرات قبل أن يقتل برصاص العدو[15].

أما وقعة خنق النطاح الثانية، فإنها جرت بعد الأولى بأيام قلائل ولقد قادها الأمير عبد القادر نيابة عن والده، الذي منعه المرض من المشاركة في القتال، وتنسب إلى الوالد، لأنه حضر لها من البداية، لأنه كان الزعيم الروحي المعترف به في تلك المنطقة، ولا يصح لغيره أن يقود، ما لم يعقد له اللواء بنفسه وهو ما كان.

وكانت تلك المعركة أول فرصة أتيحت للأمير فاغتنمها، كقائد، لاختبار عبقريته العسكرية، ومن الممكن أن والده كان يهدف إلى ذلك عندما اختاره دون غيره من القادة أمثال عبد القادر الزياني الذين حنكتهم التجارب وقدموا الدليل على كفاءتهم وخبرتهم في ميدان القتال.

 -ص22-

وكانت الطريقة الجديدة التي طبقها الأمير في تنظيم جيشه من النجاعة بحيث لم يترك للعدو أي حظ في النجاة، وتتمثل تلك الطريقة في تقسيم الجنود إلى خمس فرق: فرقتين للقتال، وفرقتين للدفاع، وتكون الخامسة كمينا نصب وراء العدو حتى إذا هزم وولى مدبرا وقع فيه، ولقد اصطدم الجنرال بوايي بهذه الخطة ولم يتمكن من الرجوع إلى مركزه لمدينة وهران إلا في ثلة من جنده.

وعن المعركة الثالثة التي قادها الأمير، أيضا لكن تحت اشراف والده، فإنها وقعت في التاسع عشر من شهر سبتمبر سنة 1832، وانتهت بهزيمة الجنرال بوايي، وضرب حصار مشدد على مدينة وهران ودام شهرا بأكمله، ولم يرفع إلا عندما بدأ أعيان غريس يتصلون بمحي الدين للمرة الثانية يعرضون عليه بيعة القبائل على الإمارة.

ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الاعيان كانوا، في المرة الأولىت، بعد أن ردهم ورفض عرضهم، قد لجأوا بموافقته، إلى سلطان المغرب الأقصى[16] يطلبون حمايته، ولقد لبى هذا الأخير رغبتهم، وعقد لإبن عمه علي بن سليمان على إمارة المغرب الأوسط[17] كله، وكان لم يبلغ سن الرشد بعد، بل لم يتجاوز

-ص23-

عمره الخامسة عشرة، لأجل ذلك استدعى مولاي عبد الرحمن عامله على وجدة: السيد ادريس الجراري وعينه مستشارا مكلفا بالسهر على مصالح الأمير الجديد.

ولم يكن المستشار أكثر نضجا من صاحبه، فنتج عن ذلك أن وقع العديد من التجاوزات في حق سكان بايلك الغرب الذين كانوا في بادئ الأمر، قد أعلنوا عن ولائهم للعرش العلوي، ظنا منهم أن التواجد باسم سلطة قائمة سيوحد كلمة القبائل، ويحولها إلى قوة حقيقية تقاوم الغزو الأجنبي وتسترجع الأراضي المحتلة، ومن هنا فإنهم لما رأوا أن الأمير الجديد وصحبه لا يعملون إلا من أجل النهب والكسب لفائدة أنفسهم، اشتكوا إلى السلطان وطلبوا منه تدارك الوضع، فاستجاب لهم، واستدعى ابن أخيه وحاشيته، ثم عين السيد محمد بن الحمري خليفة له، وكان ذلك يوم 3 أوت سنة 1831.

ولم تدم خلافة ابن الحمري سوى ستة أشهر تقريبا، انسحب بعدها إلى بلده بأمر من السلطان الذي خضع للتهديدات الفرنسية وأعلن لمبعوث لويس فيليب، يوم 22 مارس أنه يتخلى عن المقاومة الجزائرية[18].

 -ص24-

والحقيقة ان ذلك الانسحاب قد استقبل من قبل سكان المنطقة بكل ارتياح، لأن المغرب الأقصى لم يرسل جيوشه إلى المعركة، وانما اكتفى بتعيين الخليفة الذي اصطحب حاشيته لم تأت للحرب، ولكن للنهب والسلب واكتساب الثروة، لأجل ذلك، فإنه لم يحقق أية نتيجة إيجابية، ولم يتمكن، على الرغم من التفاف بعض القبائل حوله، لا من تحرير وهران التي تمركزت فيها الجيوش الفرنسية، كما رأينا، ولا من الاحتفاظ بمدينة معسكر التي افتكها، لمدة قصيرة، من حاميتها العثمانية.

لقد كانت تلك هي باختصار، محاولة المغرب الأقصى لمساعدة الغرب الجزائري على تنظيم المقاومة ضد الغزو الفرنسي، كما تدل على ذلك النتائج، فإنها كانت محاولة فاشلة لافتقارها إلى أهم عناصر النجاح أي الايمان القوي بعدالة القضية، والاستعداد الجدي لخوض المعركة.

وأثرت تلك المحاولة الفاشلة أيما تأثير في نفوس الأهالي، خاصة وأن الوجود المغربي على الصيغة التي ذكرناها، قد شجع على انتشار الفوضى والفساد، وانعدام الأمن في أوساط القبائل التي بدأت تتناحر فيما بينها بدلا من توحيد الصف لمقاتلة العدو المشترك.

فهذا الوضع المضطرب وما نتج عنه من أحوال سيئة في جميع الميادين هو الذي جعل أشراف ناحية معسكر يلجؤون ثانية إلى والد الأمير عبد القادر، يعرضون عليه بيعتهم له أو لوده الذي

-ص25-

برهن لهم، من خلال المعارك التي خاضها كجندي أو كقائد، على أنه أهل لها.

وفي هذه المرة، فإن محي الدين لم يرفض، بل أبدى موافقته، لكن لفائدة ابنه المحبب عبد القادر الذي كان، كما ذكرنا، قد رفع الحصار على مدينة وهران والتحق بوادي فروحة في سهل غريس حيث خيم الأعيان وكبار القبائل في انتظار تأدية مراسيم البيعة التي تمت، كما يقول محمد الجزائري عند شجرة الدردارة[19]، "الثالث من رجب الفرد سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف هجرية الموافق للسابع والعشرين من نوفمبر سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة وألف ميلادية"[20].

ولقد كان نص هذه البيعة الأولى متضمنا الخطوط العريضة للبرنامج الواسع المطلوب من الأمير الجديد أن يعمل على تحقيقه، وفي مقدمة تلك الخطوط توحيد صف القبائل لنصرة دين الله، خاصة وأن العدو قد تمركز في عاصمة بايلك الغرب الجزائري، وبدأ يمد أيديه إلى أملاك الأهالي تمهيدا للاستعمار، فأصبح من الضروري إيجاد قائد يبستطيع تنظيم الجهاد، وتأتي بالدرجة الثانية مسألة تقويم النظام والعمل باستمرار على استتباب الأمن، وصيانة النفوس والأموال من أهل البغي والفساد الذين تكاثر عددهم لعدم وجود السلطان بعد سقوط الجزائر.

-ص26-

كما أن النص بعدد القبائل التي حضرت ذلك الحادث التاريخي الهام، ويذكر أسماء العلماء والأشراف الذين لم يكتفوا بالحضور، وانما تركوا لنا نصوصا بخط أيديهم تشهد على دعوتهم إلى البيعة ومباركتهم لها، واعتقادهم المطلق بأن عبد القادر هو أحسن من يصلح لتدبير شؤونهم، ولذلك كانت مبايعته من الجميع على السمع والطاعة والامتثال للأمر ولو في ولد الواحد منهم أو في نفسه.

هكذا تمت البيعة الأولى، وعلى اثرها مباشرة، بادر الأمير عبد القادر إلى مكاتبة سائر القبائل المتواجدة في مختلف أنحاء البلاد، يخبرها بأن أهل معسكر وغريس قد بايعوه من أجل إعلاء كلمة الله، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوي والضعيف[21]، ويدعوها لإرسال ممثلين عنها قصد أداء البيعة وإعلان الانضمام إليه، وتدعيما لمفعول هذه الرسائل، أمر عبد القادر وأشرافها لإعلامهم بما وقع، والإلحاح عليهم في الحضور بكل سرعة لتقوية الصف وتنظيم المقاومة المسلحة.

وفي ظرف قصير، نسبيا، حققت الرسائل نتائج إيجابية، إذ لم يمض أكثر من سبعين يوما حتى حضر إلى مدينة معسكر -

-ص27-

مقر الإمارة- عدد الكبير من الاعيان والعلماء إلى جانب جمهور غفير من المواطنين البسطاء وانعقد مجلس عام تمت فيه ما يسمى بالبيعة الثانية التي ورد فيها خاصة ما يلي:

"هذا، ولما انقرضت الحكومة الجزائرية، من سائر المغرب الأوسط، واستولى العدو على مدينتي الجزائر ووهران، أعادهما الله دار إيمان وإسلام، بجاه النبي (ص) وطمحت نفسه العاتية، إلى الاستيلاء على السهول والجبال، الفدافد والتلال، وصار الناس في هرج ومرج وحيص بيص، لا ناهر عن منكر ولا من يعظ ويزجر، قام من وفقهم الله للهداية، وظهرت عليهم العناية من رؤساء القبائل وكبرائها، وصناديدها وزعمائها، فتفاوضوا في نصب إمام يبايعونه على الكتاب والسنة، يسمعون لأمره، ونهيه، ويتابعونه في جميع أحواله، وجالو في ميدان أفكارهم فيمن لذلك أهل، من ذوي الكمال والفضل، فلم يجدوا، لذلك المنصب الجليل، إلا ذا النسب الظاهر، والكمال السيد عبد القادر، ابن مولانا السيد محي الدين، أيد الله به الإسلام والمسلمين، وأحيا به ما اندرس من معالم الدين، فبايعوه على كتاب الله العظيم، وسنة نبيه الكريم[22]".

-ص28-

وجرت هذه البيعة يوم الثالث عشر من شهر رمضان سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف هجرية، الموافق للرابع من فبراير سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، ومن الممكن أن الأمير وأنصاره كانوا ينتظرون مبايعة عدد كبير من القبائل من مختلف أنحاء الوطن، ومن يدري؟ لعلهم كانوا يعتقدون أن الحاج أحمد باي نفسه قد يتنازل ويأتي، صحبة أعيان مقاطعة الشرق الجزائري، لتأدية يمين الولاء والطاعة، وقد يكون من حسن حظ الجزائر أن تم ذلك، فتتخذ المقاومة المسلحة في كامل أجزاء الإيالة، وتنضم إليها المقاومة السياسية التي يتزعمها، آنذاك، السيد حمدان بن عثمان خوجة، إن هذا الحلم لم يتحقق ولو في جزء ضئيل منه، لأن كل هذه الأطراف ستظل تقاوم منعزلة بدون تعاون ولا تنسيق، الأمر الذي سيسهل على الاستعمار محاصرتها ثم القضاء عليها واحدة بعد الأخرى مبتدئا بالمقاومة السياسية لأنها كانت أضعف.

ومهما يكن من أمر، فإن الأمير، بمجرد أن فرغ من مراسيم البيعة، وودع الأنصار والمحبين، وراح يولي كل اهتماماته بتشكيل حكومته، ويقول صاحب التحفة أنه استوزر محمد بن العربي واستكتب ابن عمه السيد أحمد بن علي أبي طالب، والسيد الحاج مصطفى بن التهامي، والسيد الحاج محمد الخروبي، وعين لحجابته السيد محمد بن علي الرحاوي، وولى الحاج الجيلاني بن فريحة ناظر خزينة المملكة، ومحمد بن فاخة

-ص29-

ناظر الخزينة الخاصة، والحاج الطاهر أبوزيد ناظرا على الأوقاف، والسيد الحاج الجيلاني العلوي مأمورا على الأعشار والزكاة بأنواعها، وعين لنظارة الأمور الخارجية: الحاج الميلود بن عراش.

ومن الجدير بالذكر أن هذا التنظيم الحكومي هو أول تجديد يأتي به الأمير عبد القادر، وليس هناك ما يثبت أنه أخذه عن بلد معين من البلدان التي زارها، كما أن اطلاعاتنا لم تمكننا من التعرف على مثله في أي من بقاع العالم، ولذلك نستطيع الجزم بأنه خلاصة تجربته الميدانية القصرة مدعمة بدراسة معمقة لوضع البلاد والمحنة التي تمر بها من جهة، ولسائر الأنظمة الحكومية التي عرفها من جهة أخرى.

وما من شك أن نظرة فاحصة لهيكل الحكومة الجديدة تقودنا، حتما، إلى الإقرار بأن عبد القادر إنما أراد أن يعطي لنفسه سلطة مطلقة لا ينازعه فيها أحد.

صحيح لقد أنشأ مجلسا للشورى مكونا من أحد عشر عالما، اختارهم من فطاحلة ذلك الوقت، يرجع إليهم في شؤون القضاء خاصة، وحينما يريد مخاطبة الأعيان والأشراف في مختلف أنحاء الوطن، ولكنه احتفظ لنفسه بمنصب القائد الأعلى لقوات المقاومة المسلحة بجميع أنواعها، كما أنه ترك أجهزة الأمن بنوعيه

-ص30-

الداخلي والخارجي، تابعة له مباشرة حتى يتمكن من متابعة تطور الأوضاع في كافة المجالات، ومن إبقاء الروابط متينة وثابتة بينه وبين المواطنين علما منه بأن الانفصال عن الجماهير يؤدي إلى افتقاد السلطة.

ولئن كانت النفوس تشمئز، عادة من الأنظمة الفردية، فإننا نرى، بالنسبة للأمير، أن النظام الفردي كان أحسن وسيلة للتحكم في الأوضاع وتوحيد الصف وخلق الجو الملائم للكفاح، خاصة وأن الأمر يتعلق بمصير شعب، حكم عليه ببذل كل ما في وسعه لمواجهة سيطرة أجنبية يراد فرضها عليه بقوة السلاح.

وبعد الانتهاء من تنظيم هيئة الدولة على النحو الذي ذكرناه، بدأ الأمير عبد القادر يباشر عمله كمسؤول أول، وطفق يرد على الناس ما اختلسه بعضهم من بعض وينصفهم مما وقع بينهم من أنواع المظالم والتعديات أيام الفتنة[23]، وأهم من كل ذلك، فإنه أعلن عن إلغاء المغارم والضرائب والعوائد التي كانت تدفع للبايلك، في العهد العثماني، لأسباب مختلفة، ولقد اعتبر الجزائريون هذا الاجراء الأخير دليلا على عدل الحاكم الجديد، وحرصه على الالتزام بالشريعة السمحاء في جميع الظروف.

وهناك اجراء سياسي آخر تجدر الإشارة إليه، وهو اختيار مدينة معسكر لتكون عاصمة له، ولقد كان ذلك تعبيرا منه عن

-ص31-

امتنانه وشكره لأهل غريس الذين كانوا دعاة تلك الإمارة فضلا عن كونهم أول من بايع في المرتين، ويذكرنا هذا الاختيار بقرار محمد الشيخ السعدي الذي نقل عاصمة المغرب الأقصى إلى مراكش كمكافأة لسكانها الذين آزروه في كفاحه من أجل القضاء على الوطاسيين.

كل هذه التدابير الأساسية لم تستغرق وقتا طويلا، إذ تمكن الأمير، في مستهل شهر شوال من الخروج، مطمئن البال، إلى مختلف أنحاء مقاطعة الغرب الجزائري، يتفقد الأحوال ويدعو من تخلف عن البيعة إلى الالتحاق بركب الجهاد، ولقد انتهت جولته الطويلة تلك بزيارة ميناء أرزيو الذي كان قاضيه المسمى أحمد بن طاهر قد أعلن عن معارضته للبيعة وبدأ يراجع حاكم وهران الفرنسي يطلب منه النجدة والاستيلاء على الميناء المذكور، واعدا إياه بأن السكان لن يقاوموه وبأنهم، على العكس، سيحاربون عبد القادر إذا ما حاول ارغامهم على اتباعه، لكن ذلك لم يكن سوى مجرد كلام ذهب أدراج الرياح عندما أمر الأمير بأن يلقى عليه القبض ويرسل، أسيرا، إلى معسكر حيث وجه إليه مجلس القضاء تهمة الخيانة العظمى، وحكم عليه بالإعدام: "فسملت عيناه، وقطعت يداه ورجلاه، ثم وضع في حفرة بساحة الصراية إلى أن مات بعد ثلاثة أيام"[24].

-ص32-

ولقد كان على الأمير عبد القادر، أثناء الجولة التفقدية الطويلة المذكورة أعلاه[25]، أن يقوم بأعمال جليلة وخطيرة في آن واحد: فصالح بين كثير من القبائل والاعراش، وألف بين القلوب حتى توفر، كل المجهودات لمحاربة الغزاة، وأدب بعض القبائل والجماعات التي رفضت الامتثال للأوامر، أو أعلنت عن ردتها بعد البيعة وإظهار الطاعة.

ولئن كانت مجهودات الأمير كلها تقريبا قد ركزت على الإصلاح الداخلي ودراسة الوضع السائد، في المنطقة، آنذاك، حتى يتمكن من التعرف على إمكانياته الجديدة ومن حصر واحصاء المزايا التي ينبغي أن يستفيد منها إلى أقصى الحدود والمشاكل والعراقيل التي يتحتم عليه أن يجد لها حلولا ومسكنات قبل الدخول، جديا، في المعركة ضد القوات الاستعمارية، فإن عبد القادر، قد اهتم، كذلك بتتبع أخبار وحركات الجيش الفرنسي المتمركز، خاصة في مدينة وهران، وكان ينظم ضده، ومن حين لآخر، بعض الغارات تلهيه عن التفكير في الخروج من مأواه، وتمنع ضعفاء النفوس من الأهالي من الانضمام إليه أو مساعدته بشتى الوسائل.

-ص33-

ولقد كانت غارات الوحدات الجزائرية، على الرغم من عدم إلمام أفرادها بفنون الحرب العصرية، تضيق الخناق على جيوش الجنرال بوايي النظامية المتدربة والمزودة بأحدث الأسلحة، وألحقت بها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، ومنعتها، أخيرا، من مد نفوذها خارج مدينة وهران التي صارت تعيش تحت رحمة الحصار المضروب عليها باستمرار، مما جعل القائد الأعلى في الجزائر، يسخط على بوايي ويستبدله بالجنرال دي ميشال في رابع ذي الحجة سنة 1249هـ الموافق للخامس عشر من شهر أفريل سنة 1833م.

وعلى الرغم من الانتصارات العديدة التي أحرز عليها المقاتلون الجزائريون أمام جيش يعد، في ذلك الحين، من أعظم جيوش العالم، فإن الأمير عبد القادر قد أحس، من خلال اشتباكاته بالعدو في تلك الفترة، بأن تكوين جيش نظامي بات من الأمور الضرورية التي لا يستغني عنها خاصة إذا كان لابد من توفير السواعد المتحلية بروح الانضباط لخوض كفاح شاق وطويل ضد غزاة أقوياء مصممين على البقاء ما لم ترغمهم على الخروج نيران البنادق ودماء الشهداء.

ثم عرضت الفكرة على رجال الدولة والأعيان، فاستساغوها، وشجعوه على إدخالها حيز التنفيذ حينا، وهو ما فعل، عندما أمر بالنداء في الأسواق والساحات العمومية يعلن عن البدء في

-ص34-

انشاء جيش منظم يستطيع الانضمام إلى صفوفه كل جزائري قادر، يرغب في الدفاع عن أرض الوطن.

وكانت فكرة انشاء الجيش النظامي، بالإضافة إلى تزويد البلاد بقوات مسلحة مدربة على القتال ومطلعة على مختلف فنون الحرب، أحسن وسيلة لتجنيد أكبر عدد ممكن من الجزائريين، إذ تسمح للأفراد أن يقيدوا أسماءهم في الدفاتر الأميرية المعدة لذلك، حتى ولو كانوا ينتمون إلى قبائل غير مبايعة، المهم، أن يكونوا مؤمنين بمبدأ الكفاح المسلح، ومستعدين لقبول متطلبات الطاعة والانضباط الضروريين لتكوين الجندي المدرب الكفء.

وتولى الأمير عبد القادر عمليات التنظيم بنفسه، فجعل الجيش ثلاث فرق: المشاة، والخيالة، فالمدفعيون، وعين على كل فرقة رئيسا أسماء الأغا، ثم وضع القوانين التي تسير تلك الفرق والتي جمعت فيما يسمى بوشاح الكتائب وزينة العسكر المحمدي الغالب، وهي تشتمل على مقدمة وأربعة وعشرين قانونا وخاتمة.

وإن الذي يتمعن في قراءة تلك القوانين، يعرف أن الأمير عبد القادر قد جع فيها، بالإضافة إلى تجربته الميدانية، كل ما استحسنه من النظم العسكرية التي تعرف عليها من قريب أو بعيد، وخاصة منها النظامين الجزائري في العهد العثماني، والفرنسي الذي كان يحاربه، ويستفيد منه في آن واحد.

-ص35-

اننا لن نتعرض، هنا، لتفاصيل القوانين المذكورة، لأنها واردة بأكملها في أماكن أخرى، يستطيع القارئ الرجوع إليها بسهولة تامة، ولكن هناك ملاحظة لها أهمية بالغة تستحق منا التوقف عندها، لاعتقادنا أنها كانت سببا لا يستهان به في نجاح العمل الجبار الذي أنجزه الأمير عبد القادر في ذلك المجال.

تتمثل تلك الملاحظة في تفطن الأمير إلى الحفاظ على الجانب الأخلاقي بجميع معانيه عند كافة أجناده، من العسكري البسيط إلى الأغا الذي هو رئيس الفرقة الكاملة من الجند، وللتمكن من ذلك، عمد إلى محاربة الرشوة التي هي سرطان المجتمع، وأمر في أنواع الجزاء أن من أخذ من غيره ولو "محمدية" واحدة[26] أو غش في شيء من الخدمة، فإن اسمه يمحى من الديوان العسكري ويطرد من الصفوف ويهان[27]، وعمل من جهة أخرى على تكريم الجندي، حي وميت، فأنشأ الشيعة المحمدية، وهي الوسام الأعلى للدولة، يمنح لمن أبدى شجاعة فائقة، وأظهر تفانيه واخلاصه أثناء الحرب، وإذا حدث أن استشهد العسكري، فإن راتبه لا ينقطع بل يبقى جاريا على بنيه إلى أن

-ص36-

يقدر أحد أولاده على حمل السلاح[28]، وإذا أصيب بجروح تمنعه من الاستمرار في القتال، فإنه يظل يتقاضى مرتبه إلى أن يفارق الحياة، أما إذا مرض مرضا لا يسمح له بالبقاء في صفوف الجيش، فإن بيت المال تخصص له نصف الراتب إلى أن تتداركه المنون.

كل هذه الإجراءات النبيلة قد رفعت من قيمة الإنسان المقاتل والمسؤول على حد سواء، وجعلته يرقى إلى مستوى الأمثولة التي يقتدي بها المواطنون في جميع الحالات، ولقد أدى ذلك إلى خلق جو سليم يسوده الإخاء والامن والرخاء إلى درجة أن "البنت البكر الجميلة لو سارت في بحاريها وقفارها، حاملة نفاس الجواهر على رأسها، لا تجد من يسألها، فضلا عمن يتعرض لها بسوء"[29].

-ص37-

[1] أنظر كتاب الأمير عبد القادر الذي أصدرته وزارة الإعلام والثقافة سنة 1974.

[2] تم ذلك على يد محمد باي وفي عهد ببا حسن الذي توفي سنة 1798م بعد أن بنى جامع المنصور.

[3] مشال هابار، قصة نكث العهد، باريس 1960، أنظر ص: 138 وما بعدها.

[4] ديرودولامال، مقاطعة قسنطينة، باريس 1837، ص: 47.

[5] كان أصحاب الحرف في المدن الجزائرية منظمين في هيئات يشرف على كل واحدة منها أمين، ورئيس الأمناء المنتخب هو شيخ البلدة أنظر المرآن ص:99.

[6] يذكر حمدان خوجة أن النقيب يختاره الأعيان من بينهم وينتخب على مدى الحياة، أنظر نفس المصدر.

[7] نفس المصدر، ص: 184.

[8] نفس المصدر، ص: 172.

[9] نفس المصدر، ص: 245.

[10] ولد كلوزيل سنة 1772، وتوفي بعد ذلك بسبعين سنة، ساهم في اعداد وإنجاز ثورة جوليت التي منحته قيادة الجيش الفرنسي في الجزائر ابتداءا من شهر أوت سنة 1830، ثم خشية لويس فيليب في شهر فيفري سنة 1831، وبعد اندلاع الثورة المذكورة بعام واحد، حصل على رتبة مارشال فرنسا، وعاد لقيادة الجيش في الجزائر يوم 8/7/1835، فارتكب ابشع الجرائم، وعندما استبدل بدامرمون يوم 12 فيفري 1837 التحق بمجلس النواب الفرنسي حيث أراد أن يبرر سلوكه ويثبت نزاهته وعدم صحة الاتهامات الموجهة إليه.

[11] تحفة الزائر، ص: 142.

[12] جنرال فرنسي، ولد يوم 5 جانفي سنة 1780 بباريس وتوفي فيها يوم 11 أفريل سنة 1860، كان مهندسا في الجغرافية، وبدأ خطواته الأولى في الجيش مع نابوليون الأول، وقد ارتقى إلى رتبة جنرال مباشرة بعد معركة واترلو، وفي الجزائر شارك بنفسه في حملات متعددة وجرح أثناء هجومه على بجاية، كما أنه أشرف على معركة المقطع ضد الأمير عبد القادر، وفي سنة 1847 عين وزيرا للحرب، ولما احالته الثورة على التقاعد صار يعلم الفنون العسكرية لبعض أبناء الأعيان.

[13] جنرال آخر، ولد ببلفور سنة 1760، عمل كمدرب في صفوف الجيش المصري من سنة 1824 إلى سنة 1827، وهناك تعلم العربية، ولقد استدعته حكومة جويلية ليستعمل في الجزائر، ولكن خلافه مع دوروفبكو الجأ إلى التقاعد قبل الأوان.

[14] تحفة الزائر، ص: 148 وما بعدها.

[15] أيقول الأمير محمد أن الحصان أصيب بثماني طعنات، ثم رماه أحدهم بالرصاص في رأسه فأرداه قتيلا، وظل الأمير عبد القادر يقاتل، راجلا، إلى أن قدم إليه رفقاؤه حصانا آخر فركبه، أم القصيدة التي أشرنا إليها أعلاه فقد جاء فيها:
ألم تر ي خنق النطاح نطاحنا ... غداة التقينا كم شجاع بها لوى
وكم هامة، ذاك النهار، قددتها ... بحد حسامي، والقنى طعنه شوى
وأشقر تحتي كلمته رماحهم ... مرارا، ولم يشك الجوى بل وما
نظر تحفة الزائر، ص: 149 و150.

[16] هو السلطان عبد الرحمان، تولى الحكم سنة 1822 وتوفي بعاصمة مكناس سنة 1859، سنرجع إليه بالتفصيل فيما بعد

[17] تحفة الزائر، ص: 147.

[18] يذكر إسماعيل العربي أن العرش المغربي لم يستجب للاحتجاجات الأولى التي ابدتها السلطات الفرنسية، كما أنه لم يكترث للتهديدات المتمثلة في رسائل المارشال: كلوزيل، وظهور السفينتين الحربيتين بميناء طنجة يوم 18 نوفمبر سنة 1835 ولكن نزوله عند رغبة لويس فيليب مجرد أن تلقى كتابه الذي حمله إليه الكومت شارل دومرلي يجرع بالدرجة الأولى إلى ازدياد القلاقل والاضطرابات الداخلية بالإضافة إلى فشل محاولة التدخل كما ذكرنا. (إنظم إسماعيل العربي إلى المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر، ص 30 وما بعدها).

[19] تشبها ببيعة الرسول، وقوله تعالى: ((لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة)).

[20] تحفة الزائر، ص: 157.

[21] نفس المصدر، ص: 161 و162.

[22] نفس المصدر، ص: 164، ويذكر صاحب الكتاب أن الذي صاغ نص البيعة هو السيد محمد بن حواء المجاهري.

[23] نفس المصدر، ص: 164.

[24] نفس المصدر، ص: 172.

[25] ليس لدينا ما يمكننا من ضبط المدة التي دامتها تلك الجولة، ولكننا نستطيع القول بأنها استمرت أكثر من نصف عام، لأن خبر وفاة محي الدين قد وصل إلى الأمير وهو ما يزال في نواحي تلمسان، وكان ذلك في اليوم الثالث من شهر ربيع الأول، ونحن نذكر أن الرحلة بدأت في مستهل شوال.

[26] المحمدية هي النوع الأول من العملة التي سكها الأمير عبد القادر، أما النوع الثاني فهي النصفية، وتشكل المحمدية الجزء الرابع والعشرين من الريال بوجه الذي كان يساوي في ذلك الحين: 33 تونسية أو 726 كوري سوداني، وتساوي النصفية، كما يدل على ذلك اسمها، نصف محمدية.

[27] تحفة الزائر، ص: 216.

[28] نفس المصدر، 196.

[29] نفس المصدر، ص: 219.

جميع الحقوق محفوظه © وادي سهر

تصميم الورشه