أهم صناعات الجاهليين كما تبدت في أشعارهم -د. حمدي منصور

0

هذا المقال حول إلى صيغة نصية تدوينية من المقال الأصلي ويمكن تحميله هنا كاملا بترقيم صفحاته وإحالاته وتهميشاته لمصادره
نشر في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد 67 سنة 2004. ونقلت النسخة النصية من الشاملة الذهبية.
كتبه: د. حمدي منصور، كلية الآداب- قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الأردنية

تمهيد:

صور الصناعة عند العرب الجاهليين تبدو كثيرة في الشعر الجاهلي، ويلاحظ دارس هذا الشعر بوضوح جلي أن العرب في جاهليتهم عرفوا ضروباً مختلفة من الصناعات؛ وأتقنوا فنوناً كثيرة منها وأن معرفتهم بها لم تتوقف عند تلك الصناعات التي تقتضيها ضرورة المعاش " كالحياكة والنجارة والحدادة وأمثالها". بل تجاوزوا ذلك إلى صنائع أخرى مما تدعو إليه " عوائد الترف وأحواله" كالدباغة والصياغة.
وقد كانت هذه الصناعات تشكل مصدر دخل لمحترفيها والقائمين عليها، كما أنها كانت تُعَدُّ مصدر إنتاج أساسي في مجتمعهم، كما يلاحظ دارس هذا الشعر أن العرب في هذا العصر لم يكونوا عيالاً على غيرهم من الأمم والأقوام المجاورين لهم؛ كالروم في الشام والفرس في العراق والأقباط في مصر، وإن كانوا على علاقات تجارية مع هذه الأمم وغيرها كالأحباش والهنود.
وقد عكس الشعراء الجاهليون في كثير من قصائدهم وأشعارهم معرفة العرب بالصناعات المختلفة التي كانوا يقومون بها، فجاء هذا البحث ليميط اللثام عن موقف العرب من الصنعة وأهلها، وهل حقاً أن العربي كان يحتقر الصناعة ويزري بأهلها، وأنها كانت حكراً على الرقيق والعبيد والموالي!؟ ثم ليدرس أهم الصناعات وأبرزها في العصر الجاهلي، وليكشف عن أماكن وجودها والأدوات التي كان يستخدمها الصانع، والمواد الخام التي كانت تقوم عليها صناعته، وليبين مدى حضور هذه الصناعات وانعكاسها في أشعار الجاهليين.
- الصناعة وموقف العربي منها:
الصناعة كما جاء في لسان العرب: " حرفة الصانع وعمله الصَّنْعَةُ، والصِّنَاعة: ما تَسْتَصِنْعُ من أمر، ورجل صَنَع اليد وصانع اليد" فالصناعة حرفة الصانع الذي يعتمد على يديه ويستعين بذكائه ومهارته في صنع الأشياء وتحويلها إلى أشياء أخرى يريدها.
لعل ابن خلدون المتوفى سنة 808هـ أول من أشار إلى موقف العرب من الصناعة وإلى "أن العرب أبعد الناس عن الصنائع، والسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو، وأبعد عن العمران الحضري وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها"، وتبع ابن خلدون في رأيه هذا بعض الباحثين المحدثين كالأستاذ أحمد أمين الذي ذهب إلى أن العرب كانوا " يسكنون بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقل فيها الماء، ويجف الهواء فكانوا في جزيرتهم أحراراً كإقليمهم " لم يحبسهم زرع يتعهدونه ولا صناعة يعكفون عليها" وتوسع الدكتور علي العتوم في حكمه على العرب حين قال: " أما الصناعة فكانت أحقر مهنة في نظر العرب" ولم يكتف بهذا بل ذهب إلى أن هذه النظرة بقيت في العرب إلى ما بعد الإسلام ولعلها باقية إلى الآن.
أما الأستاذ جواد علي فكان أكثر احتراساً في حكمه وأبعد عن التعميم، فقال: " أما الأعراب فقد كانوا يأنفون من الاشتغال بها- الصناعة – وينظرون إلى المشتغلين بها نظرة احتقار وازدراء لأنها في عرفهم حرف وضيعة خُلِقَتْ للعبد والرقيق والمولى ولا تليق بالحر" وإلى هذا الرأي مال الدكتور يحيي الجبوري حين قال: " إن البادية كانت تنظر إلى الصناعة نظرة زراية واحتقار، إن نفوسهم لتأبى الامتهان بها". وعاد أحمد أمين إلى قريب من هذا لما خص البدو دون غيرهم من العرب باحتقار بعض المهن كالصناعة والزراعة والتجارة والملاحة.
وقبل أن نناقش هذه الآراء لا بدّ من الإشارة إلى أنه من المعلوم أن العرب لم يكونوا مجتمعاً واحداً، ولا طبقة واحدة، وإنما كانوا مجتمعات مختلفة وطبقات متفاوتة مرت في مراحل حضارية متباينة، تعددت فيها مصادر عيشها ووسائل إنتاج أقواتها وضرورات معاشها وما تحتاج إليه في لباسها وسكناها.
وإذا ما عدنا إلى ابن خلدون الذي يرى أن العرب أبعد الناس عن الصنائع، يتضح لنا أن المقصود هم الأعراب وأهل البادية، وذلك لقوله: "والسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري "فليس العرب كلهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري هذا من جانب، ومن جانب آخر لأنه رأى أن أهل اليمن والبحرين والجزيرة بلغوا الغاية من الحضارة والترف لطول أمد الملك والحضارة فتوفرت الصنائع ورسخت كصناعة الوشي والعَصْب وما يُسْتَجاد من حَوْك الثياب والحرير. وهؤلاء عرب لا يُنَازِعُ في ذلك أحد.
أما الدكتور علي العتوم، فأظن أنه قصد بعض الصناعات البسيطة المتصلة بحرفة الحدادة التي كان أهلها يطوفون على سكان القرى وأهل الأرياف، يعرضون عليهم صناعاتهم، فيلفت منظرهم المزري وملابسهم الرثّة نظر الناس وبخاصة وهم ينفخون الكير لإشعال النار، ويكذبون على الأعراب لاستخدامهم وإنفاق سلعهم البسيطة.
وقد عزَّ عليّ أن أجد في الشعر الجاهلي الذي قرأت صورة محتقرة لصانع ما خلا نافخ الكير، إذ جاءت هذه الصورة المنفرة مرتين، الأولى في قول أمية بن خلف الخزاعي يهجو حسان بن ثابت وذلك قوله:
يَمانيّاً يظَلُّ يَشُدُّ كيراً ... وينفخ دائباً لهب الشُّواظ
والثانية قول عمرو بن كلثوم في هجاء النعمان بن المنذر يغمز في نسبه:
لحا الله أدْنَانا إلى اللؤم زُلْفَةً ... وألأمنا خالاً وأعجزنا أبا
وأجدرنا أن يَنْفُخَ الكيرَ خالُهُ ... يَصوغُ القروطَ والشّنوفَ بيثربا
ولا أدل على تقدير العرب للصناعة وأهلها وللحرف وأصحابها، من أنهم نسبوا بعضها إلى أنبياء الله مثل داود وسليمان عليهما السلام اللذين نسبت إليهما الدروع، وإلى إدريس عليه السلام الذي نسبت إليه الثياب كما ذكر الثعالبي أنه " أول من خط الكتاب وخاط الثياب".
كما أن كثيراً من أشراف العرب وسادتها في الجاهلية والإسلام عملوا في الصناعة واشتغلت بها شخصيات كان لها دور في بداية الإسلام، فأبو بكر الصديق كان بزازاً وكذلك عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، وعروة بن مسعود وغَيْدَن بن سلمة اللذان تعلما صناعة الدبابات والمجانيق وعروة بن الزبير الذي كان نجاراُ يقطع السدر ويتخذ منه أبواباً والوليد بن المغيرة والعاص بن هشام أخو أبي جهل وكانا حدادين وسعد بن أبي وقاص وكان يبري النبال وعتبة بن وقاص وكان نجاراً، وأمية بن خلف الجمحي وكان مشتغلاً بصناعة الفخار، وخباب بن الأرت وكان في الجاهلية حداداً يصنع السيوف والحطمة بن محارب العبدي من بني عبد القيس الذي نسبت إليه الدروع الحطمية وغيرهم ممن سيأتي ذكرهم في أثناء الدراسة.
نخلص من هذا إلى أن العرب لم يحتقروا الصناعة ولم يترفعوا عنها، وإنما مارسها بعض أعيانهم كيف لا وهم الذين ضربوا المثل لمن يُتْقِن صنعته فقالوا: " أصنع من تَنَوّط " وهو طائر صغير دقيقٌ في صَنْعَةِ عُشِّهِ حتى أنه يجعله مدلى من الشجر.

- صناعة الأقمشة والمنسوجات:

تحظى صناعة الأقمشة والمنسوجات بحظ وافرٍ من صور الصناعات في الشعر الجاهلي، ولعل ذلك يعود إلى أن هذه الصناعة من ضروريات الأمم والشعوب، وكل أمة تحتاج إليها لأجل اللباس والفراش وما إلى ذلك، جاء في مقدمة ابن خلدون قوله: " صناعة الحياكة والخياطة، هاتان الصناعتان ضروريتان في العمران لما يحتاج إليه البشر من الرّفه، فالأولى لنسج الغزل من الصوف والكتان والقطن ... والصناعة الثانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال والعوائد، تُفَصّلُ بالمقراض قطعاً مناسبة للأعضاء البدنية، ثم
تُلْحَم تلك القطع بالخياطة المحكمة ... وهاتان الصناعتان قديمتان في الخليقة.
والعرب كغيرهم من أمم الأرض عرفوا هاتين الصناعتين، واتخذوا من وَبَر إبلهم وصوف ضأنهم وشعر ماعزهم وجلود حيوانهم، مواد أولية صنعوا منها ضروباً مختلفة من الثياب والبرود والسجاجيد والفرش والأثاث، قال تعالى: [والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين]، كما اتخذوا من القطن والكتان والحرير مواد أولية صنعوا منها ثيابهم وحاكوا منها منسوجاتهم.
ونجد في الشعر الجاهلي ذكراً للمدن والمناطق والبلاد التي كانت تقوم فيها مثل هذه الصناعات أو تنسب إليها بعض هذه المنتجات، فقد كان العراق واحداً من هذه المراكز التي اشتهرت بحوْكها ونسيجها، يقول ربيعة بن مقروم واصفاً الظعن التي كسيت هوادجها البسط واكتست النساء في هوادجهن الريّط العراقي فجعلنه لرقته ونعومته يلي أجسادهن، يقول:
جَعَلْنَ عَتيقَ أنماطٍ خُدوراً ... وأظْهَرنَ الكرادي والعهونا
على الأحداجِ، واسْتَشْعَرْنَ ريْطاً ... عراقياً، وقَسِّيّياً قشيبا
واشتهرت الحيرة- حيث بلاط المناذرة- ببعض الصناعات، ومن أهم صناعاتها صناعة النسيج ولا سيما نسيج الحرير والكتان والقطن والصوف، وقد بلغت في صناعة النسيج درجة عالية من الحذق والإتقان، وكان قصر الخورنق يضم عدداً من النساجين، يقول عمرو بن كلثوم:
إذ لا تُرَجِّي سُلَيْمى أن يكونَ لها ... من بالخَوَرْنقَ من قَيْنٍ ونَسَّاج
ونسيج العراق كان مُنَمَّقاً مزخرفاً، يقول امرؤ القيس:
جَعَلْنَ حوايا، واقْتَعدْنَ قَعَائِداً ... وخَفَّفْنَ من حَوْك العراقِ المنمَّق
ويقول طفيل الغنوي:
لقد بَيَّنَتْ للعينِ أحداجها معاً ... عليهن حَوْكيُّ العراقِ المُرَقَّم
عُقار تَظَلُّ الطيرُ تَخْطَفُ زَهْوَهُ ... وعاَلْيْنَ أعْلاقاً على كلِّ مفأم
وتبرز اليمن ومدنها وبعض قراها مراكز مهمة في صناعة الأقمشة والمنسوجات، ويزخر الشعر الجاهلي بذكر البرود اليمانية والأقمشة والثياب التي تنسب إلى كثير من مناطقها نحو؛ نجران ورَيْدة وسحول وثَرْمَداء وعدن وصنعاء ... فقد كانت لليمن شهرة واسعة في صناعة الملابس وتحبير ... البرود، كما أنها كانت قد بلغت قدراً متقدماً في صناعة النسيج ... والحياكة، يقول امرؤ القيس:
كأن حواءً من يمانٍ مُعَصِّبٍ ... بمنكبها والآجِنّيَ المشمّس
وشبه طرفة بن العبد آيات الدار ورسومها، بثوب وشي يمانٍ نسجه أهل رَيْدة وسحول، وهو ثوب مزين مزخرف، يقول:
وبالسَّفْح آياتٌ كأنّ رسومها ... يمانٍ وَشَتْهُ رَيْدَةٌ وسُحولُ
وتُنَازِعُ نسوةٌ عَليهن ثيابٌ جَيْشَانيةٌ عبيدَ بنَ الأبرص الحديث، فيطرب لذلك ويلتذ، يقول:
فملنا ونازعنا الحديث أوانساً ... عليهن جَيْشَانيَّةٌ ذات أغْيالِ
وملنا إلينا بالسَّوالفِ والحُلى ... وبالقول فيما يَشْتَهي المَرِحُ الخالي
أما زهير فقد شبه الطريق وسط الفلاة بالثوب اليماني الأبيض، ... يقول:
وأبيضَ عاديّ تلوحُ متونُهُ ... على البيد كالسَّحْلِ اليماني المُبَلَّجِ
وممدوحو تميم بن أُبَي بن مقبل مترفون منعمون، يلبسون الثياب اليمانية الفاخرة لمّا ترد إبلهم الماء، لأن رجالهم يكفونهم سَقْيَها، يقول:
ترى الرّيْطَ اليماني دانياتٍ ... على أقدامهم وقت الشروع
ويرسم تميمٌ صورةً للطير وقد حطت على جنين ناقة أُجهضت به، فأخذت تمزق جلده قطعاً، وتقطعه أشلاء، فشبهها بصورة الحائك اليماني الذي أخذ يقدد- يفصل- الأقمشة ليحوك منها ثوباً، وهو بهذا يرسم صورة طريفة للحائك، يقول:
غَدَتْ عن جنينٍ تَمْزُقُ الطيرُ مِسْكَهُ ... كمزق اليماني السابريَّ المُقَدَّدا
وكانت صنعاء مركزاً لصناعة المنسوجات، يقول حميد بن ثور:
ما بالُ بُرْدِكَ لم يَمْسَسْ حَوَاشِيَهُ ... مِنْ ثَرْمَداءَ ولا صنعاءَ تَحْبِيرُ
ويكثر في الشعر الجاهلي ذكر البرود اليمانية والمنسوجات التي تُنْسب إلى مناطق في اليمن، ويبدو أن المنسوجات اليمانية كانت تفيض عن الحاجة المحلية فيصدرونها إلى أنحاء مختلفة من جزيرة العرب، فقد كانت المنسوجات القطنية والحريرية تُجْلَب إلى يثرب من اليمن، يقول امرؤ القيس وقد شبه نزول المطر بصحراء الغبيط بنزول التاجر اليماني المثقل بالمتاع والثياب:
وألقى بصحراء الغبيط بَعَاعَهُ ... نزول اليمانيّ ذي العياب المخوَّل
ويُفْهَمُ من شعرٍ لقيس بن الخطيم أن الكعبة المشرفة كانت تكسى ثياباً من صناعة اليمن، وذلك قوله:
والله ذي المسجد الحرام وما ... جُلِّلَ من يُمْنَةٍ لها خُنُفُ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُبِضَ في المدينة المنورة في إزار غليظ مما يصنع باليمن.
ومن مراكز صناعة الأقمشة والمنسوجات التي يذكرها الشعراء الجاهليون؛ المدائن التي اشتهرت بصناعة البسط وزخرفتها، وعرفت تلك البسط بالأنماط، يقول النمر بن تولب:
وكأنَّ أنْماط المَدائن وسطها ... من نَورْ حَنْوتها وجَرْجارها
ويقول سلامة بن جندل:
من نَسْج بُصْرى والمدائن نُشِّرَتْ ... للبيع يومَ تَحَضُّرِ الأسواق
وكذلك كانت هجر مركزاً لصناعة النسيج، يقول لبيد بن ربيعة العامري وقد شبه الطريق الواسع الذي تقطعه ناقته بشقائق النسّاج الهاجري، يقول:
فكلفتها وَهْماً كأنّ نَحيزَهُ ... شقائقُ نَسَّاجٍ يؤمُ المناهلا
مُنيفاً كَسَحْل الهاجريّ تَضمُّهُ ... إكامٌ ويَعْرورْي النجادَ الغوائلا
ومنها القطيف في شرق الجزيرة العربية، وقد ذكرها الأعشى في قوله يصف الظغن:
خاشعاتٍ يُظْهرنَ أكسيةَ الخـ ... ز ويُبْطنَّ دونها بشفوف
وحثثْنَ الجمال يَسْهَكْنَ بالبا ... غز والأرجوانِ خمْلَ القطيف
وكانت عُمان من مراكز صناعة النسيج، فقد جاء عند ابن سعد أنه لما وفد فروة بن مسيك المرادي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه الرسول حُلَّة من نَسْج عمان.
ومن مراكز صناعة النسيج في الشام، أنطاكية التي كانت تعمل فيها البسط وتُنْسب إليها، يقول امرؤ القيس:
عَلَوْنَ بأنطاكيّةٍ فوق عِقْمَةٍ ... كجرْمَةِ نَخْلٍ أو كجنَّةِ يثرب
وقد تُنْسَبُ الثياب إلى من يقوم بنسجها وصناعتها، كتلك التي تنسب إلى تزيد بن حيدان بن الحاف بن قضاعة، وفيها يقول علقمة الفحل:
رَدّ الإماءُ جمال الحيّ فاحتملوا ... فكلها بالتَّزيديات معكوم
عَقْلاً ورقماً تظلُّ الطَّيرُ تَتْبَعهُ ... كأنّه من دَمِ الأجوافِ مدموم
ويقول أبو ذؤيب الهذلي:
يَعْثُرنَ في حَدِّ الظُّبات كأنّما ... كُسِيَتْ بُرودَ بني تزيدَ الأذرع
وقد حظيت صناعة الحصر والبسط والسجاد باهتمام النساجين، ونالت حظاً وافراً من عنايتهم، وكثيراً ما ذكر الشعراء تشطيب الحصر وترقيمها وزخرفتها، يقول النابغة الذبياني وقد شَبَّه مجرّ الرياح على النؤي المتثلم بحصر تنقمه الصوانع:
كأنّ مَجَرّ الرامسات ذُيولَها ... عليه حَصيرٌ نَمَّقَتْهُ الصوَّانعُ
على ظَهْرِ مَبْنَاةٍ جديدٍ سيورُها ... يطوفُ بها وسط اللطيمةِ بائعُ
فالحصير يُطَاف به وسط اللطيمة ليخبر أنه متناه في الجودة وإحكام الصنعة.
وتحظى صورة النواسج وهن يَصْنَعْن الحصير بإعجاب كعب بن زهير فيشبه الطريق الواضح به، يقول:
ومستهلكٍ يَهْدي الضَّلوَلَ كأنَّه ... حَصِيرُ صناعٍ بين أيدي الرَّوامل
ويشبه تعرج الطريق بين الجبال والتواءه بين سفوحها، بالحصير المنسوج من سعف النخل الذي داخلت النواسج بين خيوطه، يقول:
فَذَريني من الملاحة حَسْبِي ... رُبَّما انْتَحِي موارِد زُورا
تتأوّى إلى الثَّنايا كما شدّـتْ صَنَاعٌ من العَسيب حصيرا
وشبه خالد بن مالك الهذلي السيوف بأيدي قومه، وحركة أيديهم بها وهم يضربون رؤوس العدو، بوقع الشواطب وهن ينسجن الحصير، ... يقول:
إذا أدركوهُمْ يَلْحَفُونَ سَرَاتَهُمْ ... بِضَرْبٍ كما جَدَّ الحصيرَ الشواطبُ
ويرسم المزرد بن ضرار صورة لحركة فرسه وتقلقل ضلوعها في سيرها، فيشبهها بحركة أيدي النسوة اللواتي ينسجن الحصير، ويفرقن بين شقائقه، يقول:
إذا الخيل من غِبِّ الوجيفِ رأيتها ... وأعينُها مثلُ القِلات حواجلُ
وقلقلته حتّى كأنّ ضلوعه ... سفيف حصيرٍ فرّجَتْهُ الروَّامل
وواضح من خلال ما أوردناه من نصوص شعرية أن النساء هن اللواتي كنّ ينهضن بصناعة الحصر، ولم يقتصر عملهن على هذا اللون من المنتجات الصناعية، بل تجاوزه إلى صناعة البرود والثياب، فقد روي عن سهل بن سعد قال: " جاءت امرأة ببردة، قال سهل: هل تدري ما البردة؟ قال: نعم، هي الشملة منسوج في حاشيتها، قالت: يارسول الله إنني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فخرج إلينا وهي لإزاره، فجسها رجل من القوم، فقال: يارسول الله أكسنيها، قال: نعم، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم، ما أحسنت إذ سألته إياها وقد عرفت أنه لا يردُّ سائلاً، فقال الرجل، والله ما سألتها إلاّ لتكون كفني يوم أموت، قال سهل، فكانت كفنه". وذهب شوقي ضيف إلى أن المرأة الحرة كانت تقوم بطهي الطعام ونسج الثياب وإصلاح الخباء.
وإلى جانب الحصير كانت صناعة النمارق والبسط والستور، وقد أكثر الشعراء من ذكرها وبخاصة عندما يصفون ظعن محبوباتهم، وهي في الغالب بسط مزخرفة موشاة، أو ستور رقيقة مدلاة، يقول زهير بن أبي سلمى:
عَلَوْنَ بأنماطٍ عِتَاقٍ وكِلَّةٍ ... وِرادٍ حواشيها مشاكهة الدَّم
كأن فتاتَ العهنِ في كلّ منزلٍ ... نزلن به حَبُّ الفنا لم يُحَطّم
ظهرنَ من السُّوبانِ ثم جَزَعْنَهُ ... على كلِّ قينيٍّ قشيبٍ ومفأم
ويقول عبدة بن الطبيب يصف مجلساً فُرِشَ ببسط تزينها الزخارف والتصاوير:
حتّى اتكأنا على فرشٍ يُزَيَّنُها ... من جيِّد الرّقم أزواج تهاويل
فيها الدجاجُ وفيها الأسد مُخْدَرةً ... من كل شيءٍ يرى فيها تماثيل
ويذكر عدي بن زيد الستور الرقيقة التي تُسَارق النسوةُ من خلالها النظر، يقول:
يُسَارِقْنَ م الأستار طرفاً مُفَتَّراً ... ويُبْرزنَ من فَتْق الخدور الأصابعا
ويذكر المثقب العبدي الستر الذي أسدل على الهوادج، ليقي النسوة من سفي الرياح وحرّ الهجير فيقول:
ظَهَرْنَ بكلَّةٍ وسَدَلْنَ أخرى ... وثَقَّبْنَ الوصاوص للعيون
ويقي الكساء واللحاف الضيف من البرد، يقول عمرو بن الأهتم:
وبات له دون الصَّبا وهي قَرَّةٌ ... لحافٌ ومصقولُ الكساء رقيقُ
واتخذ الطفيل الغنوي بيتاً من البرود التي حيك بعضها إلى بعض فجعل منها سقفاً لبيته، الذي فرشه ببسط مزينة، يقول:
وبيتٍ تهبُّ الريح في حَجَراتِهِ ... بأرضِ فضاءٍ بابُهُ لم يُحَجَّبِ
سماوتُهُ أسمالُ بُرْدٍ مُحّبَّرٍ ... وصهوتُهُ من أتْحميٍّ مُعَصّبِ
كان النساجون يعدّون موادهم الأولية قبل عملية النسيج إعداداً حسناً، فهم يخلصونها من الشوائب والأوساخ التي قد تكون علقت بها، ويكون ذلك بغسلها ثم نَدْفها بالعصي والمطارق، فأوس بن حجر يشبه زبد ناقته وهو يتطاير من شدقيها ببعثرة القطن وتطايره لمّا تضربه النوادف بعصيها، يقول:
على رأسها بعد الهَبَاب وسامحتْ ... كمخلوجِ قُطْنٍ تَرتْميه النوادفُ
ويشبه تميم بن أبي بن مقبل قطرات النّدى وهي تنحدر عن ظهر الحمار الوحشي بنديف القطن الذي يتطاير، يقول:
غدا ينفض الطّلَّ عن متنه ... تسيل شراسيفه كالقطن
ويشبه طفيل الغنوي الغبار الذي يثيره الخيل خلفها بالقطن الذي يتطاير من النوادف، يقول:
كأنّ سَدا قُطْنِ النوادفِ خلفها ... إذا استودعتَهُ كلّ قاعٍ ومذنبِ
ويشبه لبيد بن ربيعة ما انجرد من شعر حمار الوحش بزَغب القطن الملجوم، يقول:
حتى إذا انجرد النسيلُ كأنه ... زغبٌ يطير وكرسفٌ ملجوم
أما تميم بن أبي بن مقبل فقد شبه أصوات النواقيس بأصوات المحابض- آلات الندف- التي ينزع بها حب القطن، يقول:
كأن أصواتها من حيث تسمعها ... صوتُ المحابض يجذبن المحارينا
وهم يزرعون القطن في بعض المناطق من جزيرتهم، يقول أمية بن أبي الصلت:
والطوطَ نزرعُهُ أغنّ جراؤهُ ... فيه اللباس لكل حَوْلٍ يُعْضَدِ
ويذكر أوس بن حجر تنظيف الصوف بالمطارق فيقول:
تُنْفَوْنَ عن طُرُقِ الكرام كما ... تَنْفي المطارقُ ما يلي القَرَدُ
ويذكر ابن السكيت طرق صناعة المنسوجات الصوفية، وكيف أنها تختلف باختلاف طريقة الصنع، يقول: " فإذا غزل الصوف شزراً ونُسِجَ بالحفِّ فهو كساء، فإذا غزل يسراً ونُسِج بالصيصة فهو بجاد، فإذا جُعل شُقَّّةً وله هدب فهي غِرةٌ وبردٌ وشملة، فإذا كانت النمرة فيها خطوط سوى ألوانها فهي بُرْجدٌ، فإذا كانت منسوجة خيطاً على خيط فهي مُنَيِّرة، فإذا عرضت الخطوط البيض فهي عباءة، وإذا غزل شزراً جاء خشناً لا يدفئ وهو الذي يغزل على الوحشي وهو اليَمْنُ أيضاً، وإذا غزل يَسْراً وهو الذي يغزل على الإنسي جاء دفيئاً رقيقاً دقيقاً".
وإلى جانب الصوف والقطن كانت بعض الملابس تتخذ من الكتان، فقد ذكر حسان بن ثابت أن المغنيات كنّ يلبسن ثياباً من الكتان، يقول:
يَجْتَنِيْنَ الجاديَّ في نقب الرَّيط ... عَليها مَجَاسِدُ الكَتَّان
ويبدو أن المغنيات كن يلبسن هذا الضرب من الثياب المصنوع من الكتان، يقول الأعشى في مدح قيس بن معد يكرب الكندي:
هو الوَاهِبُ المُسْمِعَات الشُّرُو ... ب بين الحرير وبَيْن الكَتَنْ
وتظهر كذلك صورة المغنيات اللواتي يلبسن الحرير، ويمتعن الندامى بمناظرهن الحسنة الجميلة إلى جانب أصواتهن العذبة الرخيمة، يقول الأعشى.
ترى الخَزَّ تَلْبَسُهُ ظاهِراً ... وتُبْطِنُ من دونِ ذاك الحريرا
ويقول عمرو بن الأهثم:
ولاعبني على الأنماطِ لُعْسٌ ... عليهنّ المجاسِدُ والحريرُ
أما الأدوات التي كان يستعملها النساجون والحائكون في صناعاتهم فكثيرة، ذكر الشعراء الجاهليون منها في أشعارهم الصيصة وهي شوكة الحائك، يقول دريد بن الصمة في رثاء أخيه عبدالله مصوراً وقع الرماح في جسمه:
فجئت إليه والرّماحُ تنوشُهُ ... كوقع الصياصي في النسيج الممدد
وذكروا المغزل الذي يستخدم في تحويل الشعر أو الصوف أو الوبر إلى خيوط قبل عملية النسيج، يقول الأعشى في قيس بن مسعود الشيباني:
وَعُرِّيتَ من وَفْرٍ ومال جَمَعْتَهُ ... كما عُرِّيَتْ ممِّا تُمِرُّ المغازلُ
وذكره- المغزل- الشماخ بن ضرار لمّا نعت صاحبته بالترف والنعمة فقال:
مُنَعَّمةٌ لم تلق بؤس معيشةٍ ... ولم تغتزل يوماً على عود عوسج
وقالت ريطة بنت عاصية ترثي أخاها:
ككُبِّةِ الغَزْلِ تَجْري في أمِدَّتها ... إذا رَمْونا بها عُدْنا نُدَهْديها
وقال امرؤ القيس:
كأنّ طميَّة المُجَيْمِر غدوةً ... من السَّيل والغُثَّاء فلكةُ مغزل
ومن الأدوات التي ذكرها الشعراء الحِلْو وهو حَفٌّ صغير ينسج به، قال الشماخ بن ضرار وقد شبه لسان الحمار به:
قُوَيْرِحُ أعوام كأن لسانه ... إذا صاحَ حِلْوٌ زَلَّ عن ظَهْر مِنْسَج
ومنها الهراوة وهي عصا الحائك، قال امرؤ القيس مشبهاً فرسه بها لصلابتها:
بعِلْجزَة قد أتْرَزَ الجَرْيُ لَحْمَها ... كُمَيْتٍ كأنها هِراوةُ مِنْوال
ومن أدوات الخياطة الإبرة وقد ذكرها زهير بن أبي سلمى في قوله:
فيم لُمْتَ إن لوْمَها ذعرُ ... أحميتَ لوماً كأنّه الإبَرُ

- الصناعات المعدنية:

عرفت الجزيرة العربية في أجزاء مختلفة منها بعض المعادن، وأهم المناطق التي توجد فيها المعادن؛ الحجاز واليمن والساحل الشرقي للجزيرة العربية، وقد ورد ذكر بعض المعادن في القرآن الكريم كالذهب والفضة والنحاس والحديد، وهي معادن عرفها العرب وصنعوا منها ما يحتاجون إليه في حياتهم، وقد اشتهرت مناطق بالصناعات المعدنية كالحيرة التي اشتهرت بصناعة الأسلحة من سيوف وسهام ونصال للرماح، كما كانت صناعة التحف المعدنية والحلي فيها من أرقى الصناعات، إذ كان الصّاغة الحيريون يتفننون ويبدعون في صناعة أدوات الزينة من ذهب وفضة ويرصعونها بالجواهر والياقوت.
وكذلك اشتهرت اليمن بصناعة الحلي لتوافر معدن الذهب فيها، كما اشتهرت مكة ويثرب بصناعة السيوف والدروع والسهام، يقول ... الأعشى:
مَنَعَتْ قياسُ الماسخيَّةِ رَاْسَهُ ... بسهام يَثْرب أو سهام بلاد
ويقول طفيل الغنوي:
رَمَتْ عن قِسِيِّ الماسخيِّ رجالنا ... بأجود ما يُبْتَاعُ من نَبْلِ يثرب
ومن المدن التي اشتهرت بالصناعات المعدنية إلى جانب مكة والمدينة بصرى التي اشتهرت بمهارة حدّاديها ودقتهم في صناعة السيوف، يقول الحصين بن الحمام المريّ يصف فرسان قومه على خيولهم:
عليهن فتيانٌ كساهُهم مُحَرِّقٌ ... وكان إذا يكسو أجاد وأكرما
صفائح بُصرَى أخلصتها قيونها ... ومُطّرداً من نسج داود مُبْهَما
وكانت قرية سلوق- من قرى اليمن- مركزاً مشهوراً في الصناعات المعدنية، وبخاصة صناعة الدروع التي باتت تُنْسب إليها، يقول النابغة الذبياني:
تَقُدُّ السلوقيّ المضاعف نَسْجُهُ ... وتُوقِدُ بالصّفاح نار الحباحب
وشهرة اليمن بالصناعات المعدنية معلومة ولا سيما بصناعة السيوف اليمانية التي أفاض الشعراء في وصفها والحديث عنها، وكذلك كانت مشارف الشام من مراكز صناعة السيوف فنسبت إليها وهي من أجود سيوفهم، وكانت أريحا من أهم مناطق مشارف الشام في هذه الصناعة المتميزة، يقول صخر الغيّ الهذلي:
وصارمٌ أُخْلِصَتْ خَشِيَبَتُهُ ... أبيضُ مَهْوٌ في مَتْنِهِ رَبَدُ
فلوتُ عنه سيوف أرْيحَ إذ ... باءَ بكفِّي ولم أكد أجد
وكان من العرب من عمل في صناعة التعدين كالوليد بن المغيرة والعاص ابن هشام أخي أبي جهل وكانا حدادين، وخباب بن الأرت الذي كان من صانعي السيوف، وترد في الشعر الجاهلي أسماءُ كثيرٍ ممن عملوا في المعادن منهم؛ قَعْضَب وهو رجل من بني قشير كان يعمل في صناعة الأسنة، ذكره امرؤ القيس في شعره، فقال:
وأَوْتَادُه ماذيّةٌ وعمادُهُ ... ردينيّة فيها أَسِنَّةُ قَعْضَب
ومنهم سُرَيْجٌ رجل من بني أسد كان ماهراً في صناعة السيوف، وفيه يقول خراشة بن عمرو العبسي:
بِكُلِّ سُرَيْجيٍّ جَلا القَيْنُ مَتْنَهُ ... رقيق الحواشي يترك الجرحَ أنجلا
ومنهم ابن مُجدّع الذي ذكره أوس بن حجر وأشاد بدقة صناعته، فهو يقطع السيف ويجلوه ويحدّ شفرته، وهو سيف أبيض يتلألأ لمعاناً كأثر الجراد إذا دَبّ على الأرض، يقول أوس:
وذو شطباتٍ قَدُّهُ ابن مُجَدَّعٍ ... له رَوْنَقٌ ذَرِّيُّهُ يتآكَلُ
وأَخْرَجَ منه القينُ أثْراً كأنَّهُ ... مَدَبُّ دبا سُودٍ سَرَى وهو مُسْهِلُ
ومن هؤلاء كذلك الهالك بن عمرو بن أسد بن خزيمة، الذي شبه لبيد بن ربيعة انكباب الثور الوحشي ورفعه رأسه وتحريكه له بانكبابه على شحذ السلاح وصقله، يقول لبيد
جُنَوحَ الهالكيِّ على يديه ... مُكبّاً يَجْتَلِي نُقَب النّصال
وممن ارتبطت أسماؤهم بصناعة السيوف، أبو العجلان الذي صوره الأعشى وقد أكبّ يوماً كاملاً يشحذ السيف حتى تصبب العرق منه، يقول الأعشى:
وإلاّ كلّ ذي شُطَب صَقيلٍ ... يَقُدُّ إذا عَلاَ العُنقَ الجرانَا
أكبَّ عَليْهِ مِصْقَلتَيْهِ يوماً ... أبو عَجْلانَ يَشْحَذُه فتانَا
فَظَلّ عليه يَرْشَحُ عارِضاهُ ... يَحُدُّ الشَّفْرَتَيْن فما أَلانا
ومن هؤلاء، الحدادان أبزى وشَرْعَب ذكرهما الأعشى:
ولَدْنٌ من الخَطِّيِّ فيه أسِنَّةٌ ... ذَخَائِرُ ممّا سَنَّ أَبْزَى وشَرْعَبُ
وبيضٌ كأمثالِ العقيق صوارمٌ ... تُصَانُ ليومِ الدَّوْخِ فينا وتُخْشَبُ
وكُلُّ دِلاصٍ كالأضَاةِ حَصِينَةٍ ... ترى فَضْلَها عن ربّها يَتَذَبْذَبُ
وحظيت صناعة الدروع بنصيب وافر من اهتمام الشعراء، وهم ينسبونها إلى داود وسليمان عليهما السلام إلى تُبّع ومُحَرِّق والحطمة بن محارب بن عبد القيس، يقول سلامة بن جندل في نسبتها إلى داود عليه السلام وآل محرق:
لبسوا من الماذيّ كلّ مُفَاضَةٍ ... كالنِّهي، يوم رياحِهِ، الرّقراق
من نَسْجِ داودٍ، وآل مُحَرِّقٍ ... غالٍ غرائبُهُنَّ في الآفاق
وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم).
ويزخر الشعر الجاهلي بصورة القين الذي يصنع السيوف والرماح والدروع والنصال وغيرها من الأسلحة، يقول النابغة الذبياني في صفة الثور الوحشي وقد شبهه بالحداد ينفخ النار:
مُوَلّيَ الريح رَوْقَيْهِ وجَبْهَتَهُ ... كالهِبْرقَيَّ تَنَحى يَنْفُخُ الفحما
ويقول الطفيل الغنوي في صانعي الزّجاج:
فَبَاتُوا يَسُنُّون الزّجاج كأنّهم ... إذا ما تَنَادَوْا خَشْرَمٌ مُتَحَدِّبُ
ويقول سلامة بن جندل واصفاً سلاحه:
بالمشرفيّ ومصقول أسنتها ... صم العواملِ صَدْقاتِ الأنانيب
يجلو أسنتها فتيانُ عاديةٍ ... لا مقرفين، ولا سود جعابيب
سوّى الثّقافُ قناها، فهي محكمةٌ ... قليلة الزّيْغِ، من سنٍّ وتركيب
كأنّها بأكفِّ القوم إذ لحِقُوا ... مواتحُ البئر، أو أشطان مطلوبِ
ويكثر حديث الشعراء عن الصياقل والقيون وصانعي الأسلحة ويسعفنا الشعر بذكر بعض الأدوات التي كان يستعملها هؤلاء في صناعاتهم ومنها: المبرد والكير والمطرقة والمدوس والعلاة . ويبدو من شعرٍ لسلامة بن جندل أنهم كانوا يجتمعون في مناطق مخصصة لهم، ... يقول:
ضممنا عليهم حافَتَيهم بصادقٍ ... من الطعنِ، حتى أزمعوا بِتَقرُّقِ
كأن مناخاً من قيونٍ، ومنزلاً ... بحيث التقينا من أكفِّ وأسؤق
وإذا ما انتقلنا إلى الصاغة والمشتغلين بصناعة المعادن الثمينة كالذهب والفضة، فإننا نَجِدُ لهم حضوراً واضحاً في الشعر الجاهلي، وأبرز ما يطالعنا من موادهم التي استخدموها في صناعاتهم الذهب والفضة والياقوت والزبرجد وغيرها من الأحجار الكريمة، وأكثر ما صاغوا منها القروط والأساور والخواتم والدماليج والخلاخيل والقلائد، "وقد عثرت شركة التعدين السعودية العربية في أثناء بحثها عن الذهب على أدوات استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه مثل: رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، وشاهدت آثار القوم في حفر العروق التي تُكوّن الذهب"، ويبدو أن يثرب كانت من أبرز مراكز الصاغة في الجزيرة العربية، ولا ريب أن وجود اليهود فيها كان عاملاً أساسياً في شهرتها لما لهم من اهتمام بهذا اللون من الصناعة، يقول هدبة بن الخشرم:
عليهن من صُنْعِ المَدينَةِ حِلْيَةٌ ... جُمَانٌ كأعْنَاقِ الدَّبا وَرَفَارفُ
وقال عمرو بن كلثوم في هجائه النعمان بن المنذر معرضاً بأمه سلمى بنت وائل بن عطية اليهودي:
لحا الله أدْنَانا إلى اللُّؤم زُلْفَةً ... وألأمنَا خالاً وأعجزنا أبا
وأَجْدَرنا أن يَنْفُخَ الكيرَ خَالُهُ ... يَصُوغُ القُروطَ والشُّنُوفَ بيثربا
وكانت المرأة تعمد إلى التّزَيُّنِ بالمصوغات المختلفة استجابة لما فُطِرن عليه من حُبِّ الزينة. قال تعالى: (أومَن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين)، هذا من جانب، ولتظفر بإعجاب الرجل من جانب آخر، يقول حاتم الطائي في زينة محبوبته:
تهادى، عليها حَلْيُها، ذاتُ بَهْجَةٍ ... وكشحاً كطيِّ السَّابريةٍ أهضما
ونحراً كفا ثور اللُّجَيْنِ يَزينُهُ ... توقّد ياقوت، وشذراً مُنظّما
كجمر الغَضا هَبَّتْ له بعد هَجْعَةٍ ... من الليلٍ أرواحُ الصّبا فتنسما
ويقول قيس بن الخطيم:
وجيدٍ كجيد الرئم صافٍ يزينه ... تَوقُّدُ ياقوتٍ وفَصْل زبرجدِ
كأن الثّريا فَوْق ثُغْرَةِ نَحْرِها ... تَوَقَّدُ في الظّلماء أيّ تَوَقُّدِ
وكذا تزينت النسوة لما ارتحلن في هوادجهن، يقول المرقش الأصغر ...:
تَحَمَّلْنَ مِنْ جَوِّ الوَريعَة بَعْدَ ما ... تعالى النَّهارُ، واجْتَزعْنَ الصَّرائِما
تَحَلَّيْنَ ياقوتاً وشَذْراً وصيغةً ... وجَزْعاً ظَفَاريّاً ودُرّاً توائما
ويتوهج الذهب في نحر معشوقة امرئ القيس ويتوقد كأنه جمر الغضى، يقول:
كأنّ على لبَّتِها جَمْرَ مُصْطَلٍ ... أصابَ غَضَى جَزْلاً وكُفَّ بأجدالِ
ويُسْمَع للحلي صَوْتٌ وهو يضطرب في نحور الحسان، يقول ... الأعشى:
تَسْمَعُ للحَلْي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعانَ بريحٍ عِشْرقٌ زَجَلُ
ويلوح الذهب على صدروهن، يقول المثقب العبدي:
ومِنْ ذَهَبٍ يَلُوحُ على تَريبٍ ... كلونِ العَاجِ لَيْسَ بذي غُضُونِ
وينظم الصاغة الذهب في أسلاك تحيط بالعنق، يقول النابغة:
والنَّظمُ في سلكٍ يُزَيِّنُ نَحْرَها ... ذَهَبٌ تَوَقَّدَ كالشَّهابِ الموقدِ
وللمصوغات أسماء تعرف بها وتَمَيَّز بها أنواعها فمنها: الخِرْص وهو القِرط بحبةٍ واحدة، ومنها التِّقصار وهو قلادة لاصقة بالعنق، ومنها السدل وهو الخيط من الجوهر في العنق، ومنها الكِرْس وهو قلائد مضموم بعضها إلى بعض، ومنها الكبيس وهو حَلْيٌ يُصَاغُ مجوفاً ثم يحشى بالطيب ويكبس وغيرها كثير، يقول طفيل الغنوي:
كأنّ الرِّعاثَ والسَّلُوسَ تَصَلْصلتْ ... على خَثَثَاوى جأبة القرن مغزلِ
يَزِيِنُ مَرَادَ العَيْنِ من بَيْنِ جَيْبها ... ولَبَّاتِها أجواز جزعٍ مُفَصّلِ
كجمرِ غضاً هَبَّتْ له وهْوَ ثاقِبٌ ... بِمَرْوَحَةٍ لم تَسْتَتِرْ ريحُ شمْألِ
واتخذت المرأة من الفضة بعض حليها، يقول حسان بن ثابت:
هَمُّها العِطْرُ من الفِراشُ ويَعْلُو ... ها لُجَيْنٌ ولؤلؤٌ منظوم
وروي عن عائشة –رضي الله عنها- أنها قالت: " دخل عليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فرأى في يديّ فتخات من وَرِقٍ، فقال ما هذا يا عائشة، فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: أتؤدين زكاتهن، قلت: لا، أو ما شاء الله، قال هو حسبك من النار".
وكذلك صنعوا من المعادن الأغلال والقيود ونعال الخيل والمسحاة والمحراث والمنجل، كما صنعوا منها كثيراً من الأواني كالقدور والأباريق والقوارير وغيرها.

- الصناعات الجلدية:

لا يسعفنا الشعر الجاهلي في تقديم صورة واضحة المعالم عن الصناعات الجلدية عند العرب، وإن كان يلقي أضواء على بعض هذه المصنوعات، ولا شك أن العرب استفادوا من جلود الحيوانات التي كانوا يقومون على تربيتها كالإبل والبقر والضأن والماعز، أو تلك التي كانوا يصطادونها كالأتن والبقر الوحشية وغيرها.
وهذا الضرب من الصناعات يقوم على معالجة الجلود وإصلاحها وتخليصها من الأوبار والأصواف والأشعار، ثم دباغتها بعروق بعض النباتات أو أوراقها، ومن ثم يقومون بإنتاج بعض المصنوعات الجلدية ... التي يحتاجون إليها في حياتهم اليومية، ومن أبرز مناطق الصناعات الجلدية التي تطالعنا في العصر الجاهلي مدينة الحيرة التي ذاعت فيها صناعة الجلود ودباغتها، واشتهرت مدينة الطائف شهرة واسعة بدبغ الجلود وصناعتها، إذ استخدم أهلها المواد والأعشاب المختلفة في معالجة الجلود قبل تصنيعها، جاء عند ياقوت الحموي قوله: " والطائف بليدة صغيرة على طرف وادٍ، وهي محلتان: إحداهما على هذا الجانب يقال لها طائف ثقيف، والأخرى على هذا الجانب يقال لها الوَهْط، والوادي بين ذلك تجري فيه مياه المدابغ التي يُدْبغُ فيها الأديم يصرع الطيور رائحتها إذا مرت به".
وكان ملك الحيرة النعمان بن المنذر، يرسل لطيمة في كل عام لتباع في سوق عكاظ، ويُشْتَرى له بثمنها ما يحتاج إليه في بلده من جلود الطائف ومن مراكز الصناعات الجلدية صَعْدَة التي كانت بلد الدّباغ في الجاهلية لأنها وسط بلد القَرَظ، وذاعت شهرة اليمن بدباغة الجلود والصناعات الجلدية، وقد اشتهر الجلد اليمني المدبوغ في جميع أنحاء الجزيرة العربية بجودته وحسن صنعته، وكانت مدينة صنعاء معروفة بصناعة النعال المشعرة، وتُصْنَعُ النعال الترخميّة في قرية خاو بالقرب منها، ولكثرة من اشتغل في هذه الصناعة من حِمْيَر فقد وصفت القبيلة بكثرة الخرَّازين فيها، كما اشتهرت قبيلة الحرث بن كعب بصناعة الجلد، لأنهم أهل آدم، يقول النمير بن تولب بعد أن هزل وقَلَّ لحمه فاضطرب جلده:
فُضولٌ أراها في أديمي بعد ما ... يكون كفاف اللحم أو هو أَفْضَلُ
كأن مَحطًّا في يَدَيْ حارثيّةٍ ... صناعٍ عَلَتْ مني به الجلد من عل
ومن أشهر الصناعات الجلدية؛ النعال وكانت تصنع من الجلود، وأفضلها السِّبت وهي النعال المتخذة من الجلود المدبوغة، وخصّه بعضهم بالمتخذ من جلود البقر خاصة، وسمي سبتاً لأن شعره سُبِتَ عنه " أي حُلِقَ وأُزِيل بعلاج من الدباغ" ولا يُقَال له سبت حتى يصير حذاء، قال أبو ذؤيب الهذلي:
وقام بناتي بالنّعال حواسراً ... فألصقن وقع السّبت تحت القلائد
وقال عبد مناف بن رِبْعٍ الجُرَبيُّ:
إذا تَجَرَّدَ نَوْحٌ قامتا مَعَهُ ... ضَرْباً أليماً بِسبْتٍ يَلْعَجُ الجلدا
وجاء ذكر السبت في شعر عنترة العبسي وذلك قوله:
بَطَلٌ كأن ثيابه في سَرْحةٍ ... يُحْذى نِعَال السّبْتِ ليس بتوأم
وثمة نعال رقيقة خفيفة يلبسها الأثرياء والمترفون، فالنابغة يمدح ملوك الغساسنة بقوله:
رقَاقُ النِّعال طَيّبٌ حُجُزاتُهم ... يُحَيَّوْنَ بالرَّيْحانِ يوم السَّباسب
ووصف عمير بن عامر الخزاعي محبوبته في مجموعة من صويحباتها، فرأى أنه من تمام النعمة عليهن أن يلبسن نعالهن وهن في الدور إشارة إلى ما هّن عليه من ترف وبذخ، فقال:
وكنَّ يُراكلن المُروط نواعماً ... يُمَشَّيْنَ وسط الدار في كلّ مُنْعَلِ
وتسترعي صورة صانع النعال الجلدية لبيد بن ربيعة، فيرصده وهو يخرج مخرزه من جلد النعل ويعيده فيه ثانية، فيشبه به حركة قرني الثور وهو يطعن بهما كلاب الصيد، يقول لبيد:
يَشُكُّ صِفَاحها الرَّوْق شَزْراً ... كما خرج السِّرادُ من النِّعَال
ونجد هذه الصورة عند سويد بن كراع العكلي، وذلك قوله:
إذا كرّ فيها كرَّة فكأنها ... دَفينُ نقالٍ يختفيهن سارد
ومن مصنوعاتهم الجلدية، التروس التي كانوا يتخذونها من جلود البقر والثيران لتكن أقوى فترتد عنها ضربات الأعداء، قال صخر الغيّ معيباً على قومه عدم استخدامهم التروس:
لو أنّ أصحابي بنو خُنَاعَهْ ... أهل النّدى والمجد والبراعه
تحت جلود البقر القراعه ... لنهنهوا من هذه اليراعه
ويمتنع عمرو بن الكلب على عدوه لاعتزازه بسلاحه وامتناعه به، وهو سيف أبيض مصقول، وترس محدب أسمر اللون، اتخذ من جلد الثور، تتساقط عنه النصال، يقول:
تمناني وأبيض مََشْرفيّاً ... وشاحُ الصَّدْر أُخْلِصَ بالصِّقالِ
وأسْمَر مُجْنَئاً من جلد ثَوْرٍ ... أصم مُفَلِّلاً ظُبَةَ النّصالِ
ويصنعون من الجلود الدلاء التي يستخدمونها في استخراج الماء من الآبار، أو يقابلون بينها على البكرة في سقي المزروعات وريها، ويرسم لبيد صورة لهذه الدلاء الأخيرة وكيف يُقابل بينها، فإذا هي دلاء لينة قد دبغت بأوراق شجر السلم، يقول:
بمقابلٍ سَرِبِ المخازر عِدْلُهُ ... قَلِقُ المحالة جارنٌ مسلوم
وكثيراً ما ذكر الشعراء الدلاء في أشعارهم.
ويصنعون من الجلود بيوتاً لهم تسمى الطراف، ولا يكون الطراف إلاّ من أدم، يقول طرفة:
وتَقْصير يوم الدّجْنِ، والدَّجْنُ مُعْجِبٌ ... ببَهْكَنَةٍ تحت الطراف الممدَّدِ
وذكره الحارث بن حلزة وذلك في قوله:
وحَسِبْتُ وَقْعَ سيوفِنَا برؤوسهم ... وَقْعَ السّحابِ على الطِّراف المشْرَجِ
وجاء في شعر عمرو بن شأس أنه من الأدم، وذلك قوله:
ولم أر ليلى بعد يوم تَعَرَّضَتْ ... له دون أبواب الطّراف من الأدم
وهناك صناعات جلدية أخرى كان العرب يتخذونها من جلود حيواناتهم، وهي صناعات أولية بسيطة، إلا أنها تفي بالغرض وتسدّ الحاجة، ومن هذه المصنوعات الأنساع وهي سيور مستطيلة مجدولة تحزم بها البضائع والسلع وتشدّ بها الرحال، وقد أكثر الشعراء من ذكرها. يقول المثقب العبدي ناعتاً ناقته بالصلابة والقوة:
يَجُدُّ تَنَفُّسُ الصُّعَدَاءِ منها ... قُوَى النّسْعِ المُحَرَّمِ ذي المتونِ
كأن الكور والأنساعَ منها ... على قَرْواءَ مَاهِرَةٍ دهين
ومن سيور الجلد اتخذوا القيود والأغلال، يقيدون بها الأسرى والمسجونين، يقول عدي بن زيد:
وما ظلم امرئ؟ في الجيد غُلٌ ... وفي الساقين ذو حَلَق طويل
ومن مصنوعاتهم الحصر المنسوجة من سيور الجلد، يقول عبدة بن الطبيب:
وذكّرنيها بعد ما قد نَسِيتُها ... ديارٌ عليها وابل مُتَبَعِّقُ
بأكنافِ شمّاتٍ كأن رسومها ... قضيمُ صَنَاعٍ في أديم مُنمِّقُ
ومنها المزادة والسِّقاء والزّق والنّحي والوطب من أوعية السوائل كالماء والخمر واللبن، وغيرها من الأوعية الجلدية التي كانوا يستخدمونها في حياتهم اليومية، بالإضافة إلى الدفوف والسروج والأرسان وأوتار القسي والكنائن وغيرها.
وكان لأهل هذه الصنعة أدواتهم التي يستخدمونها في صناعتهم، ومن أشهر هذه الأدوات والآلات؛ الإزميل، يقول عبدة بن الطبيب يصف وَخْدَ ناقته في الأرض:
وما يزالُ لها شأوٌ يُوَقّرُهُ ... مُحَرَّفٌ من سيور الغَرْفِ مجدول
عَيْهَمَةٌ ينتحي في الأرض مَنْسِمُها ... كما انتحى في أديم الصِّرْف إزميل
ومنها المسرد المبْقر والمقص.. وكانوا يدبغون الجلود بالأعشاب كالغَلْقة؛ وهي عشبة تجفف وتطحن ثم تضرب بالماء وتنقع فيه الجلود، والدهناء وهي عشبة حمراء لها ورق عِراض، أو يدبغونها بجذور الأشجار وأوراقها كالقرظ والنّجب وورق السَّلم وشجر الآلاء والحُلّب والعِرْنة.
وكانت الصناعات الجلدية تعرض في الأسواق، وقد تعرضها النسوة، ويفهم من شعرٍ للنابغة أن امرأة من أهل الحرم كانت تعرض ما معها من الجلود وقد انتهى الموسم فخشي عليها أن تحطمها ناقته، يقول:
من قول حِرْميَّةٍ قالت وقد ظَعَنُوا ... هل في مُخِفِّيكُم من يشتري أدما
قلت لها وهي تسعى تحت لَبَّتِها ... لا تَحْطِمَنَّك إن البيع قد زَرِما

- الصناعات الخشبية:

كانت الجزيرة العربية بيئة صالحة لكثير من الأشجار، وقد جاءت أسماء كثير منها في أشعار الجاهليين، ومن هذه أشجار الشّوحط والعضاة والشيزى والسدير والدّلب والطلح والأرطاة والرند وغيرها، ولا شك أن العرب استفادوا من أخشاب هذه الأشجار في صناعتهم الخشبية واتخذوها مادة أولية لها، وأطلقوا عليها النجارة وهي كما يقول ابن خلدون "من ضرورات العمران"  فأهل البادية يتخذون منها العمد والأوتاد لخيامهم والحدوج والرماح والقسي والسهام لسلاحهم، وأما أهل الحاضرة فيصنعون منها سقف بيوتهم وأغلاق أبوابهم وكراسي جلوسهم.
ويذكر جواد علي أن الرحالين المنقبين قد عثروا " على ألواح من الخشب وعلى نوافذ ومواد خشبية أخرى في اليمن وفي حضرموت، منقوشة نقشاً بديعاً، محفورة حفراً يدل على دقة الصنعة وإتقان في العمل، وهي شاهد على تمكن النجار من مهنته، وحسن استخدامه للأدوات في صنع النفائس والطرائف من الخشب.
كما وجدت البعثة الأمريكية في بيوت (تمنع) القتبانية صناديق خشبية محفورة ومنقوش عليها صور ورسوم، كما لاحظت البعثة ظهور زخارف من الخشب كانت تبرز فوق الأبواب لإعطائها رونقاً وجمالاً، وهذا يعني أن النجار كان متمكناً من صناعته حاذقاً لها.
وقد استخدم أهل هذه الصناعة بعض الأدوات التي تعنيهم في صنعتهم كالمسامير التي تستخدم في شدّ الألواح بعضها إلى بعض، وقد ذكر ذلك قيس بن الخطيم في قوله:
فلا تَجْعلوا حَرْباتكُمْ في نحوركم ... كما شدّ ألواح الرِّتاج المسامِر
ومنها الثّقاف وهو حديدة تكون مع القَوَّاس والرّماح يقوم بها الشيء المعوج، قال سلامة بن جندل:
سوى الثّقاف قناها فهي مُحْكَمة ... قليلةُ الزّيْغ من سَنٍّ وتركيب
وذكرها عمرو بن كلثوم في قوله:
إذا عضّ الثّقافُ بها اشمأزت ... تَشُجُّ قفا المُثَقِّفِ والجبينا
ومن أدواتهم الفأس، وكانوا يقطعون بها جذوع الأشجار وغصونها، يقول زهير:
حتّى إذا ما التقى الجمعان واختلفوا ... ضرباً كَنَحْتِ جذوعِ النَّخل بالسَّفَنِ
ومنها المبرد، ذكره طرفة بن العبد في قوله:
وجُمْجُمةٌ مِثْلُ العَلاة كأنّما ... وعَىَ المُلْتَقى منها إلى حَرْف مبرد
ومنها الإزميل الذي يستعمل في الحفر على الخشب، قال عبدة بن الطبيب:
عَيْهَمَةٌ يَنْتَحي في الأرض مَنْسِمُها ... كما انتحى في أديم الصِّرف إزميلُ
وذكر الشعراء من هذه الأدوات القدوم والطريدة وهي قصبة فيها حُزَّة يُبْرى بها، قال الشماخ:
أقَام الثِّقافُ والطريدَة درأها ... كما قوَّمت ضِغْنَ الشَّمُوس المهامِزُ
وهناك أدوات أخرى لم يذكرها الشعراء فيما وصلنا من أشعارهم، كالمحفار والمنقار والمسحل والكلبتين.
ويلاحظ أن صناعة الأسلحة قد حظيت بحيز واسع من اهتمام الشعراء بها، وبخاصة القنا التي يتخيرها الصانع من فروع الأشجار الصلبة القوية كشجر النبع أو الشّوحط أو المران أو الوشيح أو غيرها، ثم يقوم بإزالة ما فيها من عقد ونتوءات ويقومها بالثقاف والمدوس والطريدة حتى تصبح قويمة ملساء لا اعوجاج فيها ولا انعطاف، فهذا الشماخ يرسم لنا صورة النجار الذي أخذ يقوم القناة فيستلهم صورته من البيئة فإذا بالشبه يقع على صورة الحمار الوحشي الذي يعض الشموس من اتنه، يقول:
يَعَضُّ على ذوات الضَّغْنِ منها ... كما عضّ الثِّقَافُ على القناة
وأفضل القنا ما كان بعد التصنيع أملس مستقيماً ليناً يلمع كأنه دهن بالزيت، يقول المزرد بن ضرار:
ومُطِّرِدٌ لدنُ الكُعُوب كأنّما ... تَغَشّاه منباعٌ من الزيت سائل
ونسبت القنا إلى الأشخاص الذين كانوا يصنعونها أو إلى المناطق التي اشتهرت بها؛ فمنها السمهرية والردينية واليزنية والخطية.
وكانت صناعة السهام ذات شهرة واسعة لما لها من أهمية في القتال والصيد، وتمرّ صناعة السهم بمراحل، فأول ما يقطع يسمى قطعاً ثم يُبْرى فيسمى بريّاً فإذا قُوِّم وأتى له أن يراش ويُنْصل فهو القِدْح، فإذا ريش فقد صار نصلاً، يقول ابن مقبل:
وعاتق شوحطٍ صُمٍّ مُقَاطِعُها ... مكسوةٍ من خيار الوشي تلوينا
وقد بَرَيْتَ قِدَاحاً أنت مُرْسِلُها ... ونحن راموك، فانظر كيف ترمينا
وكانوا يختارون لسهامهم أحدّ النّصال وأمضاها، ويشدون عليها أجود الريش وأفضله، يقول ساعدة بن جؤية:
كساها رطيب الرِّيش فاعْتَدَلتْ لها ... قِدَاحٌ كأعناقِ الظِّباء زفازفُ
ويصور أوس بن حجر صناعة السهام خير تصوير، فصانعها يتخير عيدان أسهمه بعناية فائقة، فإذا ما تم له ذلك كدّ ذهنه في صنعها وتقويمها حتى تستوي له وفق مراده، ثم يكسوها الريش اليماني اللين الحسن، ويجعل في رؤوسها نصالاً حادة تتوقد كأنها جمر الغضا في يوم ريح، يقول:
وحَشؤَ جفيرٍ من فروع غرائبٍ ... تَنَطَّعَ فيها صانعٌ وتَنَبَّلا
تُخُيِّرنَ أنضاءً وَرُكِّبْنَ أَنْصُلاً ... كجمر الغضا في يوم ريح تزيّلا
فلما قضى في الصُنْع منهنَّ فَهْمَهُ ... فلم يبقَ إلاّ أن تُسَنَّ وتُصْقَلا
كساهن من ريشٍ يمانٍ ظواهراً ... سُخَاماً لُؤاماً ليّنَ المسّن أَطْحَلا
ويراعى عند بري السهم أن يتصف بالطول فهو سلجم والرّقة فهو مرهف وبالحسن فهو أصفر أملس.
وتنسب صناعة السهام إلى يثرب وبلاد وهما من بلاد اليمامة، قال الأعشى:
مَنَعَتْ قياسُ الماسخيّة رَاْسَهُ ... بِسهام يثربَ أو سهام بلاد
ولعل صناعة القسي قد حظيت بالنصيب الأوفر من عناية الشعراء، فهم يذكرون خشبها الذي صنعت منه، ويسترسلون مع القوّاس من لحظة اختيارها من شجرة نَبْع أو شوْحطٍ أو ضال أو غيرها، في رأس جبل شاهق تحول دون الوصول إليها الصخور الحادة، فإذا وقعت نظرة القواس عليها وتم له اختيارها، ارتقى الصخور التي تدمي يديه، وعرض نفسه للهلاك، فإذا ما تمكن منها وقطعها بفأسه، صنع قوساً يقوم عليها أحسن القيام، فيتركها في الظّل لتشرب ماء لحائها حولين كاملين لتقوى وتشتد، ثم يُعْمَلْ ثقافه فيها فيقوم اعوجاجها ويبرى منآدها لتكون حسنة الصنعة، محكمة شديدة الاستواء، يقول أوس بن حجر:
ومَبْضُوعَةً من رأس فَرْعٍ شَظِيَّةً ... بطَوْدٍ تراهُ بالسحاب مُجَلّلا
على ظَهْرِ صَفْوانٍ كأن مُتُونَهُ ... عُلِلْنَ بِدُهنٍ يُزْلِقُ المتنزلا
يطيف بها راعٍ يُجَشِّمُ نَفْسَهُ ... ليكِلئَ فيها طرفهُ متأملا
فُوَيْقَ جُبَيْلٍ شامخ الرأس لم تكن ... لِتَبْلُغَهُ حتّى تَكَلّ وتعملا
فأبْصرَ ألهاباً من الطّوْدِ دونها ... ترى بين رأسَيْ كلّ نيفَيْنِ مَهْبلا
فأشرط فيها نَفْسَه وهو مُعْصِمٌ ... وألقى بأسبابٍ له وتوكلا
وقد أكَلَتْ أَظْفَارَهُ الصخر كلما ... تعايا عليه طول مَرْمَى تَوصَّلا
هذه الصعوبات الجمة لم تمنع القواس من الوصول إليها، لأنه رأى فيها القوس المثل الذي يطمح إليه ويطمح في صنعه،
فما زال حتى نالها وهو مُعْصِمٌ ... على موطن لو زلًّ عنه تَفَصَّلا
فأقبل لا يرجو التي صعدت له ... ولا نَفْسَهُ إلاّ رجاءً مؤمّلا
فما نجا من ذلك الكرب لم يزل ... يُمَعِّظها ماء اللحاء لتذبلا
فلما نجا من ذلك الكرب وصارت بين يديه، ومعظها ماء لحائها:
فأنحى عليها ذلت حَدِّ دعا لها ... رفيقاً بأخذٍٍ بالمداوس صيقلا
على فخديه من بُرايةِ عودها ... شبيهُ شفى البُهْمَى إذا ما تفتلا
فجردها صفراء لا الطول عابها ... ولا قصَرٌ أزرى بها فتعطلا
ومرة أخرى يذكر لنا أوس قصة القوّاس مع قوسه منذ لحظة رؤيتها فرعاً في شجرة النبع إلى أن يصنعها فتسوى قوساً متميزة، وتتكرر هذه القصة في قصيدة الشماخ بن ضرار التي مطلعها:
عَفَا بَطْنُ قَوٍّ من سُلِيْمى فعَالِزُ ... فذاتُ الغضا فالمُشْرِفاتُ النواشِزُ وقد أشار الشماخ إلى أن يثرب كانت مركزاً لصناعة القسي وذلك ... قوله:
عَنْسٌ مُذَكّرَةٌ كأن ضلوعها ... أطُرٌ حَنَاها الماسِخُّي بيَثْرب
وقال طفيل الغنوي في إشارة إلى صناعة النبل في يثرب التي كانت الأشجار تكثر في غاباتها، قال طفيل:
رَمَتْ عن قِسيِّ الماسِخيِّ رجالُنا ... بأجود ما يُبْتَاعُ من نَبْلِ يثرب
كما صنع النجارون من الأخشاب الأبواب وشدوا ألواحها إلى بعضها بالمسامير، يقول الأعشى:
ولا بُدَّ من جارٍ يُجيزُ سبكها ... كما جَوَّزَ السّكِّيَّ في الباب فيتق
وإلى جانب هذا فقد صنعوا المشاجب وهي خشبات موثقة توضع عليها الثياب، والسهوة التي تتكون من ثلاثة أعواد أو أربعة يُعارض بعضها على بعض ثم توضع عليها الأمتعة، والخدر الذي ينصب فوق قتب البعير ويُسْتَر بثوب، قال امرؤ القيس:
ويوم دخلتُ الخدر، خدر عُنَيْزَةٍ ... فقالت: لك الويلات إنك مرجلي
كما صنعوا أشياء أخرى غير ذلك كالجفان من الشيزى وهو خشب أسود والصناديق والأرائك والأسرة والمغازل.

الخاتمة:

يخلص البحث إلى أن العرب في العصر الجاهلي عرفوا ضروباً مختلفة من الصناعات، وأن بيئتهم أمدتهم بكثير من المواد الخام التي كانوا يستخدمونها في صناعاتهم التي تتناسب مع حاجاتهم ومدى تطورهم، وأن مراكز الصناعات انتشرت في مناطق كثيرة ومتعددة في أنحاء الجزيرة العربية.
وكان من أهم الصناعات؛ صناعة الأقمشة والأنسجة، وصناعة المعادن إلى جانب صناعتي الجلود والأخشاب، وهي صناعات تحتاج إليها المجتمعات البشرية في كل مراحل حياتها.
كما كشفت الدراسة، أن النظرة الموضوعية تثبت أن العرب الجاهليين لم يحتقروا الصناعة ولم ينظروا إلى أصحابها نظرة ازدراء واحتقار، ما خلا نافخ الكير ذي الزي الرّث والهيئة المنفرة، وأن كثيراً من العرب امتهنوا الصناعة في نواحيها المختلفة، فكان منهم الحائك والنساج والحداد والنجار والدباغ والبزاز، وبهذا تكون الدراسة قد أماطت اللثام عن بعض أوجه النشاط الاقتصادي الصناعي في المجتمع الجاهلي مما قد يسهم في رسم صورة أكثر إشراقاً لمجتمع الجاهليين.

جميع الحقوق محفوظه © وادي سهر

تصميم الورشه