لم أنهي كتابا بهذه السرعة قط!

0

لست بالقارئ النهم ولا المطالع المداوم، وليس من عادتي إنهاء كتاب في 24 ساعة، ولا أسبوع حتى،  ولست حتى الذي ينهي الكتاب دائما، فغالب ما أطالع فصول محددة لغرض استخدامها أو لأنه وجب علي مطالعتها دون مفر، إلا أني اشتريت كتابا ورقيا لألفة بالكاتب وفضول حول الكتاب، ولعدم توفره إلكترونيا أيضا، ولم أستطع تجاهله مثل "جيغات" الكتب التي حملتها ولم أطالع منها فوق عنوانها، فثمنه كان موجبا لقراءته لإسكات تأنيب جيبي، كان الكتاب حول مصير أهل الأندلس بعد سقوط غرناطة، وبالفعل وسط البرد والملل، وهروبا من إلتزامات علي، مررت على 49 صفحة، وليس هذا كتابنا المقصود، بل عند الصفحة 50 ذكر الكاتب شخصا له قصة هروب عجيبة من الأندلس ومحاكم التفتيش، إلا أنه ذكره عرضا في فقرة.
وذكر عنوان كتابه الذي شدني، ناصر الدين على القوم الكافرين، وطبعا لأن الملل بدأ يتسلل لي بعد اطالة صاحب الكتاب الورقي في التقديم -وربما أطلت مثله-، قلت لعلي أنظر هذا الكتاب إن كان متوفرا، بالفعل موجود، وأضفته لبقية "الجيغات" من الكتب، قلت دعني ازد على قراءة عنوانه ولربما مقدمته التراثية تكون فخمة كعادة الكتب التراثية ولربما يلخص كتابه فيها فيغنيني عن مطالعته، كانت مقدمته شديدة القوة حتى اني لم أفق من التهام الكتاب إلا والساعة كانت الثالثة صباحا ولم يتبقى لرنين منبهي سوى سويعات.
إن الكتاب تضيق عن تصنيفه التصنيفات، فهو كتاب يؤرخ للأندلس بعد السقوط، وكتاب رحلة لأقاصي الأرض وقتها، وجغرافيا، وتزوير وحرب مقاومة نفسية، وقصة هروب، وجدال ومقارنة أديان، لغات وألسن...وغيرها الكثير، وكاتبه هو أحمد بن قاسم الحجري الاندلسي، ولد بالأندلس بعد ثمانين سنة من سقوطها، وفي عز ملاحقة الإسلام واللغة العربية بها، والتي حسب الكاتب حمله لها في لسانه يقابله في أيامنا حمل يورانيوم مخصب، والشهادتان كشهادة وفاة.
يبدأ الكتاب بمقدمة تعريفية عن الكاتب ثم يمر لما يسمى الآن أكبر عملية تزوير في تاريخ إسبانيا، حتى أن كاتبنا نفسه لم يدر أنها عملية تزوير، وذلك سنة 996هـ إذ أمر قسيس بهدم صومعة في الجامع الكبير بقرطبة، وعند الهدم وجدو صندوقا من رصاص مخفي فيه رق كتب فيه بالعربية، واستعان الإسبان بجملة من المترجمين الأندلسيين إلا أنهم عجزوا في فهمه كله بسبب طلاسمه، وعن طريق الصدفة شارك كاتبنا في فك أحد ما لغز عنهم فانكشفت معرفته بالعربية وكان ليكون مصيره الحرق لولا حاجتهم له لإكمال فكه وترجمته، وكان مما وجد في الصندوق ظنوا أنه كتابات لأحد القديسين الذين فروا من نيرون، وقد فاجأتني معرفة الكاتب بنيرون، وكتب أخرى ظن الإسبان أنها من السيدة مريم، بالإضافة لخمار لها، وقد خدع بكل هذا حتى كاتبنا، ومن ما احتوته هذه الكتب نبوءة بظهور الإسلام ثم توسعه حتى بلوغه الأندلس ثم سقوطها ثم يستعيدها ملك يأتي من مدينة البحر، وقد سببت هذه النبوءة هاجسا ورعبا لدى القسيسين الذين تقربوا من الحجري ليحدد لهم هذه المدينة، وفي موقف آخر كانوا ليحرقوه، وقدموا له كتاب الإدريسي لعله يجدها لهم، وأخبر الحجري أنه درى أنها البندقية لكنه توههم عنها وبرر ذلك، عسى أن تعود الاندلس كما تمنى.
يرفق الكاتب بابا آخر وهو قصة هروبه وصاحبه من الأندلس، إذا كان التشديد قويا على المسلمين، ويمنعون من جواز البحر نحو الضفة الأخرى ولم يصدر المرسوم بطردهم بعد، وأعدا عدتهم وكان تحضريهم للحيل والخطط في حال ما إذا عارضهم عارض مبرزا لنبوغهم وفطنتهم على الإسبان الذين خدعوا بها، فقد عبرا خلال المعابر الرسمية وساروا في سفن الإسبان إلى أرض الإسلام، وكان من حيلهم أن إذا كشف أمرهم إدعى أحدهم الإصابة بصرع الجن وكان في ذلك نجاتهم، قبل أن تجيئ مرحلة أخرى من مخطط الهروب أين تحملوا المصاعب وانعدام المأكل والمشرب فذكر الحجري ما يشبه كرامة حصلت لهم، حتى وصولهم ولقاءهم بمزارعين مسلمين فرحوا بهم أشد فرح، حتى أني فرحت معهم كأني أشاهدهم عيانا.
كان من التناقضات والانقلابات النفسية التي حدثت للكاتب حين دخوله سوق المسلمين وأين ظنوه نصرانيا فطلبوا منه أن يشهد فشهد ففرحوا به أيضا، وكان الكاتب من قبل في بلاده الأندلس يكتم شهادته مخافة الإحراق والآن يطلب منه قولها فيحتفى به.
ازدهرت حالة كاتبنا بعد ذلك حين دخوله مراكش خلال فترة حكم السعديين وصار مترجما ومبعوثا لهم لمعرفته الواسعة باللغات، أين بعث لفرنسا وزار حواضرها، وأهمها عاصمتها باريس التي يسميها بريش، وفيها ناظر وأفحم كبراء النصارى، وبرزت براعته الجدالية ومعرفته العالية بالقرآن والتوراة (يسميها التورية) والإنجيل، وبرز ذكاؤه الحاد أين لم يجدوا عليه سبيلا وشاركت في جداله حتى نساؤهم، وله مع نساءهم قصص أين أن إحداهن أغرمت به بعد إعراضها عن رجال قومها، لكنه رغم الوقائع الكثيرة وتقربها منه حفظ عفته واستعاذ بالله من شياطين الإنس والجان.
قابل الحجري في رحلته لأوروبا أجناسا كثيرة منها الفرنجة والطليان والفلنك سكان فلنضس أي الهولنديون، وكان في كل مرة يقارن بين ألسنتهم واختلافها ويقارنها بعجمية اهل الأندلس (الإسبانية) وكان مما ذهل له وذهلوا له حادثة وقعت له في هولندا أين أحضر له بعض أهلها كتابا بالعربية وسألوه إن كان يقدر على قراءته، فترجمه لهم، وكانوا قد أحضروا الكتاب من جزر الهند، فكان ذهولهم كيف رغم كل تلك المسافة التي تقدر برحلة سنة اللغة العربية واحدة، يفهمها الأندلسي المغربي ويفهمها الهندي والماليزي وهم في أوروبا مختلفي الألسنة، وذهل هو لمعرفته أول مرة ان الإسلام وصل إلى هناك بل وله ممالك.
        على عكس فرنسا وإسبانيا فإن الكاتب يعطي إنطباعا حسننا عن فلنضس هولندا وأهل مدينتي مسترضم/أمستردام ومدينة/الهاية لاهاي، التي وجد بها أميرا اقترح على الحجري مخططا للتعاون مع ملوك المغرب والمهجرين الأندلسيين لاستعادة الأندلس، وحتى على المستوى الشعبي فقد عامل الهولنديون الحجري بود عكس الفرنسيين والطليان الذين كانوا يبدؤونه بالإستعداء.
في فلنضس كان للحجري مناظرات مع اليهود، ولم يكن يناظر عن جهل بارتجالية لمجرد شجاعته فقط، إذ يذكر الحجري تكوينه السابق وأنه كان كثير المطالعة، وأطلع على كتب في المغرب ومصر متخصصة في مناظرة كل من اليهود والنصارى وقرأ كتبهم بل يظهر حفظه لنصوص منها خلال مناظراته، أين كان نصيب اليهود من الإفحام كنصيب النصارى، رغم إظهار الحجري بغضه لليهود أكثر وبغض الهولنديين والإسبان لهم وذلك لمعاشرتهم وخبرتهم بهم.
للكتاب اضاءات لغوية لسانية أيضا إذ يظهر الاستخدام القديم لبعض المفردات والتصريفات المستخدمة اليوم في كل أقطار بلاد المغرب، فقد كان الحجري يورد غالب المحادثات بصيغة عامية مع تهذيب قليل ويظهر ذلك في جمل مثل "تعلمت نقرا بالعربية" و "يعرف العربية غاية" ولو قرأت هذه الجملة في الإنترنت لظننت قائلها من الغرب الجزائري ربما، وجمل مثل "نفيق ونقرا"  و "ما نحب منك إلا نقرا عليك في الكتب" و"كلام الفرنج نفهمه لاكن ما تعرف نتكلم به" كما أن الحجري وصف أحد النوافذ في بريش باريس "وجاء راهب إلى الباب وتكلم من طاقة صغيرة" والكثير يظن أن استخدام طاقة غير فصيح وأن نافذة فقط هي الأصح بينما هي قديمة الاستعمال هنا، كما من اللطائف التي أذهلتني حديثه عن أحد فاعلي الخير في تونس الذين يوزعون الخبز على اللاجئين الأندلسيين إذ قال: "يعطيهم في كل يوم نحو 1500 قرصة خبر صدقة" وكلمة قرصة لازالت هي الأخرى معنا إلى اليوم، كما يظهر أيضا بعض التسميات القديمة لما يختلف عندنا الآن، فمثلا يسمي محاكم التفتيش بالحراقين، عدا عن تسمياته للأماكن والأقوام وحتى الكتب والأعلام.
إن الكتاب كنز وفيه ذهب يسهل استخراجه بمجرد قراءته، ويصعب عرضه في هذا المقام المختصر المقتصر على عرضه، ورغم ذهبه إلا أن في الكتاب ما يعيبه، وآثر الكاتب تركه آخرا وذلك حديثه عن بعض الكرامات التي حدثت له، واستخدامه بعض الرقى والجداول لشفاء بعض من لجأوا له للمساعدة ونجح معه ذلك، إلا أنه يمكننا رؤية ذلك من منظور أنه ابن عصره في المنطقة التي عاش بها، وحاول الابتعاد عن الشركيات قدر ما استطاع وهاجر في سبيل الله بعد ولادته في وطن هو له وصار دار كفر وذل، رحم الله أحمد بن قاسم الحجري وغفر لله وجزاه على ما نصر به دينه وكتب وأبقى.



روابط إضافية:
تحميل الكتاب
نسخة أخرى أحسن تحقيقا من التي قرأت

جميع الحقوق محفوظه © وادي سهر

تصميم الورشه