مقتبسات من كتاب حضارة العرب لغوستاف لوبون 1257-1350هـ/1841-1931م

0



ولا جرم أن الشبه قليل بين العربي أيام حضارته واليهودي الذي عرف منذ قرونٍ بالنفاق والجبن والبخل والطمع، وأن من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي، ولكن، لا تنس أن طرق الحياة الخاصة التي خضع اليهود لحكمها منذ قرون كثيرة هي التي أنشأت منهم عرقاً ذليلاً غير محترم، وعندي أن كل أمة تكون عرضةً لمثل ما أصاب اليهود، ولا تعرف عملاً لها غير التجارة والربا، وتحتقر في كل مكان، وتنتقل إليها تلك الغرائز المنحطة بالوراثة المتتابعة مدة عشرين قرناً، وتتأصل فيها، تصير كما صار إليه اليهود لا محالة.

غوستاف لوبون - حضارة العرب ص68
والأعرابي نشيط، ويعود نشاطه إلى وجوب كسب عيشه بنفسه، وهو صبور، ويرجع صبره إلى ما لا محيص عنه من احتمال الآلام والمحن، وهو محب للحرية، والحرية هي الأمر الوحيد الذي اتفق له أن يتمتع به، وهو محارب، ويحارب حاقداً كل من يحاول استعباده، وهو قاسٍ على نفسه صارمٌ ولوع بالانتقام في الغالب.
ونرى الأعراب متماثلين في أمور العز والشرف؛ لتماثل أحوالهم ومشاعرهم، ويقوم فخرهم على السيف والقرى والبلاغة، فبحد السيف يصونون حقوقهم، وبالقرى يتجلى كرم أخلاقهم، وبالبلاغة يحسمون ما لا يقدر عليه السلاح من الخصام.

غوستاف لوبون - حضارة العرب ص 74 75
وأضيف إلى ما تقدم أن الأعراب من سكان جزيرة العرب وسورية وإفريقية يحبون الحرية حباً جماً لا يقدر الأوربي أن يتصوره، وهم يزدرون أبناء المدن ويعدونهم من الأرقاء لذلك، ويتضمن الارتباط في الأرض عندهم معنى توديع الحرية والخضوع لسيد، ويرى الأعراب الذين لا يملكون سوى حريتهم أن هذه الحرية أغلى شيء، وقد حافظوا عليها بتوالي الأجيال، ولم يقدر جميع الفاتحين من الأفارقة والرومان والفرس وغيرهم من الأمم التي دوخت العالم أن يعبدوهم، وكل قهر للأعراب لا محالة زائل، والقهر إذا ما وقع كان على أيدي أعراب آخرين، فلا يفل الأعراب إلا الأعراب.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص 75 76

يرجع حب الأعراب للحرية إلى أقدم عصور تاريخهم، فقد روى ديودورس الصقلي أن الأنباط، وهم من أعراب بلاد الحجر العربية (بطرا)، كانوا ممنوعين من بذر القمح وغرس الأشجار المثمرة، وبناء البيوت لما في هذه الأعمال من التضحية بالحرية طوعاً، ولذا لم يستذل الأعراب أحد، وهم الذين لم يعطوا ملوك فارس الجزية، وقد أعطاها أهل فينيقية وفلسطين كما ذكر هيرودوتس.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  76

وأصبح أعراب جزيرة العرب، بما كان عندهم من غرائز النهب والقتال، محاربين أشداء أيام خلفاء محمد فدوخوا العالم بسرعة، ولم تتغير غرائزهم بتغير ما لاقوا من الأحوال الجديدة، بل تجلت على صور أخرى ما كان الثبات من الغرائز، فأصبح حبهم للنهب حبا للفتح، وتحول كرمهم إلى ما أخدته أوربة عنهم مؤخراً من طبائع الفروسية

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  76

ويستخف الأعراب بسلطان الحضارة، ويفضلون عليها عيش البادية، وهذه من المشاعر الموروثة التي ترى مثلها عند هنود أمريكية ولا يؤثر فيها أي دليل، ورفض الأعراب، في سورية على الخصوص، كل أرضٍ عرضت عليهم ليستقروا بها، ويعرف هؤلاء الأعراب، الذين يستوقف نبلهم وبأسهم نظر كل سائح، كيف يستغنون عن نعم الحضارة المصنوعة، وعن جبروت كل أمير إقطاعي كأمراء القرون الوسطى، ولا تخلو حياة البادية من السحر والجمال مع ذلك، ولا أتردد ثانية في ترجيحها على حياة المصانع التي يقضي العامل فيها اثنتي عشرة ساعة من كل يوم.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  76

ويجمع أولئك الحضريون والأعراب على مقت الأوربيين القاهرين لهم وحقدهم الشديد عليهم، ويضحي الجزائري، الذي نصفه بالخلي المتردد المكسال القانع الوضيع المتزيِّد، بماله ونفسه، ويشترك في كل عصيان وتمرد؛ للخلاص من حكم الأجنبي الذي فتح بلاده

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  85

، وقد تتم إبادة عرب الجزائر بوسائل منتظمة كالتي اتخذها الأمريكيون لإبادة أصحاب الجلود الحمر، ولكن الذي أعتقده هو أن الفرنسي لن يستطيع حمل الجزائري على التفرنس، وأن من المتعذر أن يسود السلام في قطرٍ واحد بين العرب والفرنسيين الذين ينتسبون إلى عرقين مختلفين، وقد سمعت هذا الرأي، الذي يجتنب تدوينه في الكتب عادةً، من جميع أولي البصائر في الجزائر، وإني أوافق عليه موافقة تامة.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  85


أسباب تعدد الزوجات في الشرق
لا يدرك المرء نظم أمة أجنبية إلا إذا تناسى، قليلاً، مبادئ البيئة التي يعيش فيها وفَرَضَ نفسه من أبناء تلك الأمة، ولا سيما إذا كانت تلك النظم من نوع مبدأ تعدد الزوجات الذي لمَّا تُعْلَمْ حقيقة أمره إلا قليلاً فأسيء الحكم فيه.
ولا نذكر نظاماً أنحَى الأوربيون عليه بالائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاماً أخطأ الأوربيون في إدراكه كذلك المبدأ، وذلك أن أكثر مؤرخي أوربة اتِّزاناً يرون أن مبدأ تعدد الزوجات حجرُ الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشأت عن هذه المزاعم الغريبة، على العموم، أصوات سُخطٍ رحمةً بأولئك البائسات المكدَّسات في دوائر الحريم، واللائي يَرقُبُهن خِصْيَانٌ غِلاظ، ويُقتَلْن حينما يَكْرَههن سادتهن.
ذلك الوصف مخالفٌ للحق، وأرجو أن يَثْبُتَ عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل، بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوربية جانباً، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيبٌ يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراهما في أوربة.
وأقول، قبل إثبات ذلك: إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصاً بالإسلام، فقد عَرَفَه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد، ولم ترَ الأمم التي اعتنقت الإسلام فيه غُنْماً جديداً إذن، ولا نعتقد، مع ذلك، وجود ديانة قوية تستطيع أن تُحَوِّل الطبائع فتبتدع، أو تمنع، مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جَو الشرقيين وعروقهم وطُرُق حياتهم.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  411


لم يقتصر الإسلام على إقرار مبدأ تعدد الزوجات الذي كان موجوداً قبل ظهوره، بل كان ذا تأثير عظيم في حال المرأة في الشرق، والإسلامُ قد رفع حال المرأة الاجتماعيِّ وشأنَها رفعاً عظيماً بدلاً من خفضها خلافاً للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقًا إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوربية كما أثبتُّ ذلك حينما بحثتُ في حقوق الإرث عند العرب، أَجَلْ، أباح القرآن الطلاق كما أباحته قوانين أوربة التي قالت به، ولكنه اشترط أن يكون «للمطلقات متاعٌ بالمعروف.»
وأحسن طريقٍ لإدراك تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق هو أن نبحث في حالهنَّ قبل القرآن وبعده.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  414 415



ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نُضيف إلى هذا أنه أول دين فعل ذلك، ويَسْهُل إثبات هذا ببياننا أن جميع الأديان والأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة، وهذا ما أوضحناه في كتابنا الأخير، فلا نرى غير تكرار ما ذكرناه فيه لإقناع القارئ: كان الأغارقة، على العموم، يَعُدُّون النساء من المخلوقات المنحطة التي لا تنفع لغير دوام النسل وتدبير المنزل، فإذا وَضَعَت المرأة ولدًا دميمًا قَضَوا عليها، ومن ذلك قول مسيو ترُوبْلُونْغ: كانت المرأة السيئة الحظ التي لا تضع في إسبارطة ولداً قوياً صالحاً للجندية تُقتَل، وقال: كانت المرأة الولود تُؤخذ من زوجها بطريق العارية؛ لتَلِد للوطن أولاداً من رجل آخر.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  418



فقد كان سلطان الرجل في رومة على زوجته مطلقاً، وكانت تعد أمةً لا قيمة لها في المجتمع، ولم يَكن لها قاضٍ سوى زوجها الذي بيده حقُّ حياتها وحق مَوتها، ولم تعامل الشريعة اليونانية المرأةَ بأحسنَ من هذا، وهي لم تعترف لها بأيِّ حق، ولا بحق الميراث.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  420


ومن غير أن نذهب بعيداً إلى أحكام القوانين والديانات القديمة في نقص المرأة عقلاً وأخلاقاً، أذكر أن بعض العلماء المعاصرين أثبتوا ذلك النقص مستندين إلى عوامل تشريحية ونفسية كثيرة، فحاولوا إقامة الدليل على أن الحضارات كلما تقدمت اختلفت المرأة عن الرجل ذكاء.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  421


ولا يزال رب الأسرة الشرقية محافظاً على سلطانه خلافاً لما هو واقع في الغرب، ولا تُكَلِّمُ النساء الشرقيات أزواجهن إلا بأدب، ويقتدي الأولاد بهن بطبيعة الحال، ويتمتع رب الأسرة الشرقية، في الحقيقة، بمثل ما كان يتمتع به ربُّ الأسرة في رومة الغابرة من السلطان والامتيازات، ولا يجد الشرقيون فينا ما يُثير حسدهم من هذه الناحية.
وينظر العرب شزراً إلى العزوبة، والعزوبةُ تزيد في الغرب شيوعاً كلَّ يوم كما دلت عليه الإحصاءات، ومتى بلغ العربيُّ العشرين من عمره تزوج على العموم، ومتى بلغت العربية ما بين السنة العاشرة والسنة الثانية عشرة من عمرها تزوجت على العموم، وقد اعترف إيبر بفائدة هذه العادة فقال:
«لا يسعنا إلا الشهادة بحسن تلك الروح البَيْتِيَّة، وصلاح تلك الحياة المنزلية.»

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  422


إذا استثنيت ما يسمع في إفريقية الشمالية من اللغات الأوربية علمت أن العربية والبربرية هما اللغتان اللتان يتكلم بهما سكان إفريقية الشمالية، ولكن اللغة العربية هي الأوسع انتشاراً، ولا يتكلم أحد بالبربرية في غير الجبال أو البقاع البعيدة جداً من المدن، وللبربرية لهجات كثيرة مختلفة فيما بينها اختلاف ما بين الفرنسية والإسبانية أو بينهما وبين الإيطالية، وتعربت البربرية، كما تعرب البربر أنفسهم، نتيجة لاتصالها باللغة العربية، ويتألف نحو ثلث البربرية التي يتكلم بها سكان منطقة القبائل الكبرى من كلمات عربية، وأمر طريف مثل هذا يثبت لنا مرة أخرى مقدار تأثير العرب العظيم الذي لم يكتب مثله لأية أمة أخرى، ومن هذه الأمم اليونان والرومان الذين دام سلطانهم في شمال إفريقية دوام سلطان العرب من غير أن يتفق للغتيهم أي أثر في اللغة البربرية.

غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص  258 259

جميع الحقوق محفوظه © وادي سهر

تصميم الورشه