أسباب تعدد الزوجات في الشرق
لا يدرك المرء نظم أمة أجنبية إلا إذا تناسى، قليلاً، مبادئ البيئة التي يعيش فيها وفَرَضَ نفسه من أبناء تلك الأمة، ولا سيما إذا كانت تلك النظم من نوع مبدأ تعدد الزوجات الذي لمَّا تُعْلَمْ حقيقة أمره إلا قليلاً فأسيء الحكم فيه.
ولا نذكر نظاماً أنحَى الأوربيون عليه بالائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاماً أخطأ الأوربيون في إدراكه كذلك المبدأ، وذلك أن أكثر مؤرخي أوربة اتِّزاناً يرون أن مبدأ تعدد الزوجات حجرُ الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشأت عن هذه المزاعم الغريبة، على العموم، أصوات سُخطٍ رحمةً بأولئك البائسات المكدَّسات في دوائر الحريم، واللائي يَرقُبُهن خِصْيَانٌ غِلاظ، ويُقتَلْن حينما يَكْرَههن سادتهن.
ذلك الوصف مخالفٌ للحق، وأرجو أن يَثْبُتَ عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل، بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوربية جانباً، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيبٌ يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراهما في أوربة.
وأقول، قبل إثبات ذلك: إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصاً بالإسلام، فقد عَرَفَه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد، ولم ترَ الأمم التي اعتنقت الإسلام فيه غُنْماً جديداً إذن، ولا نعتقد، مع ذلك، وجود ديانة قوية تستطيع أن تُحَوِّل الطبائع فتبتدع، أو تمنع، مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جَو الشرقيين وعروقهم وطُرُق حياتهم.
غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص 411
لم يقتصر الإسلام على إقرار مبدأ تعدد الزوجات الذي كان موجوداً قبل ظهوره، بل كان ذا تأثير عظيم في حال المرأة في الشرق، والإسلامُ قد رفع حال المرأة الاجتماعيِّ وشأنَها رفعاً عظيماً بدلاً من خفضها خلافاً للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقًا إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوربية كما أثبتُّ ذلك حينما بحثتُ في حقوق الإرث عند العرب، أَجَلْ، أباح القرآن الطلاق كما أباحته قوانين أوربة التي قالت به، ولكنه اشترط أن يكون «للمطلقات متاعٌ بالمعروف.»
وأحسن طريقٍ لإدراك تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق هو أن نبحث في حالهنَّ قبل القرآن وبعده.
غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص 414 415
ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نُضيف إلى هذا أنه أول دين فعل ذلك، ويَسْهُل إثبات هذا ببياننا أن جميع الأديان والأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة، وهذا ما أوضحناه في كتابنا الأخير، فلا نرى غير تكرار ما ذكرناه فيه لإقناع القارئ: كان الأغارقة، على العموم، يَعُدُّون النساء من المخلوقات المنحطة التي لا تنفع لغير دوام النسل وتدبير المنزل، فإذا وَضَعَت المرأة ولدًا دميمًا قَضَوا عليها، ومن ذلك قول مسيو ترُوبْلُونْغ: كانت المرأة السيئة الحظ التي لا تضع في إسبارطة ولداً قوياً صالحاً للجندية تُقتَل، وقال: كانت المرأة الولود تُؤخذ من زوجها بطريق العارية؛ لتَلِد للوطن أولاداً من رجل آخر.
غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص 418
فقد كان سلطان الرجل في رومة على زوجته مطلقاً، وكانت تعد أمةً لا قيمة لها في المجتمع، ولم يَكن لها قاضٍ سوى زوجها الذي بيده حقُّ حياتها وحق مَوتها، ولم تعامل الشريعة اليونانية المرأةَ بأحسنَ من هذا، وهي لم تعترف لها بأيِّ حق، ولا بحق الميراث.
غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص 420
ومن غير أن نذهب بعيداً إلى أحكام القوانين والديانات القديمة في نقص المرأة عقلاً وأخلاقاً، أذكر أن بعض العلماء المعاصرين أثبتوا ذلك النقص مستندين إلى عوامل تشريحية ونفسية كثيرة، فحاولوا إقامة الدليل على أن الحضارات كلما تقدمت اختلفت المرأة عن الرجل ذكاء.
غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص 421
ولا يزال رب الأسرة الشرقية محافظاً على سلطانه خلافاً لما هو واقع في الغرب، ولا تُكَلِّمُ النساء الشرقيات أزواجهن إلا بأدب، ويقتدي الأولاد بهن بطبيعة الحال، ويتمتع رب الأسرة الشرقية، في الحقيقة، بمثل ما كان يتمتع به ربُّ الأسرة في رومة الغابرة من السلطان والامتيازات، ولا يجد الشرقيون فينا ما يُثير حسدهم من هذه الناحية.
وينظر العرب شزراً إلى العزوبة، والعزوبةُ تزيد في الغرب شيوعاً كلَّ يوم كما دلت عليه الإحصاءات، ومتى بلغ العربيُّ العشرين من عمره تزوج على العموم، ومتى بلغت العربية ما بين السنة العاشرة والسنة الثانية عشرة من عمرها تزوجت على العموم، وقد اعترف إيبر بفائدة هذه العادة فقال:
«لا يسعنا إلا الشهادة بحسن تلك الروح البَيْتِيَّة، وصلاح تلك الحياة المنزلية.»
غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص 422
إذا استثنيت ما يسمع في إفريقية الشمالية من اللغات الأوربية علمت أن العربية والبربرية هما اللغتان اللتان يتكلم بهما سكان إفريقية الشمالية، ولكن اللغة العربية هي الأوسع انتشاراً، ولا يتكلم أحد بالبربرية في غير الجبال أو البقاع البعيدة جداً من المدن، وللبربرية لهجات كثيرة مختلفة فيما بينها اختلاف ما بين الفرنسية والإسبانية أو بينهما وبين الإيطالية، وتعربت البربرية، كما تعرب البربر أنفسهم، نتيجة لاتصالها باللغة العربية، ويتألف نحو ثلث البربرية التي يتكلم بها سكان منطقة القبائل الكبرى من كلمات عربية، وأمر طريف مثل هذا يثبت لنا مرة أخرى مقدار تأثير العرب العظيم الذي لم يكتب مثله لأية أمة أخرى، ومن هذه الأمم اليونان والرومان الذين دام سلطانهم في شمال إفريقية دوام سلطان العرب من غير أن يتفق للغتيهم أي أثر في اللغة البربرية.
غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص 258 259